أعمدة

البلاغة العربية وحروب المسيرات

بطشُ العدو الصهيوني في بلاد العرب، شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، يتركنا في فوضى تعبيرية لا أظن أن العرب قد خبروها في أيٍّ من كوارثهم السابقة: كيف يمكن للخطاب العربي، السياسي والإعلامي والشِّعري، أن يواكب سرعة الطيران المسيَّر كالذباب الخفي في سماوات العواصم العربية؟!

يبدو أن أصعب مهمة تتحدّى كُتّاب الصُحف ووكالات الأنباء، وتُرهق موظفي وزارات الإعلام والخارجية، هي «التجميعُ» من وراء نتنياهو وحكومة حربه، والركضُ الحثيثُ لصياغةِ العناوين العريضة والبيانات والخُطب في وقتٍ قياسي يوازي تطوّرات حرب يوشع بن نون المفتوحة على المنطقة. وجزى الله المحسنين خيرًا: «آكسيوس» و«رويترز» و«أسوشيتد برس»... إلخ، من المواقع والصحف ووكالات الأنباء العالمية التي تتصدّق على الإعلام العربي بمعطيات الحرب الدائرة في بلادنا وتغذّيها بالتصريحات الجاهزة للاستهلاك والتدوير والتزوير في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية. بل تبلغُ الحال ببعض الفضائيات العربية حدَّ الاعتماد الأعمى على «القناة 12 الإسرائيلية» و«هآرتس» و«يديعوت أحرونوت» و«معاريف» وغيرها من وسائل إعلام وصحافة العدو كمصادر يقينية لاستقاء المعلومات الدقيقة!

من الواضح أن مؤسسات الإعلام العربي العاجز، معظمها عن تغطية شؤونها المحلية أصلًا، تفشل أيّما فشل في ملاحقة الضربات الإسرائيلية المتتالية التي تدشِّن في هذه الحرب جبهات جديدة تدخل للمرة الأولى تاريخ الصراع. العاصمة القطرية، الدوحة، أصبحت منذ الثلاثاء الماضي أول عاصمة خليجية (ضمن منظومة دول مجلس التعاون) يطالها العدوان الإسرائيلي المباشر، ويَسقط من أبنائها أولُ شهيد قطري في الحرب مع دولة الاحتلال. خَطبٌ جَلَلٌ وحسَّاس كهذا مثلًا، في قلب عاصمة تضم الشبكة الإعلامية الأضخم في الوطن العربي (الجزيرة)، لا يبلغنا إلا بعناوينه السريعة والعامة فقط. وكالعادة، لمزيد من التفاصيل والتحليلات، يصبحُ علينا تتبّع ما تقوله وسائل الإعلام الأجنبية. ألا يكشف هذا النهج في استقاء الأنباء وما خلفها عن خلل وتناقض في مكان ما، في نفس الوقت الذي نُشيطن فيه الإعلام الغربي ونتهمه بازدواجية المعايير والانحياز للرواية الصهيونية، بينما نقتات على الخبر المستورد من وسائل الإعلام الغربية نفسها، وعن أحداث تدور في بلادنا؟!

وعلى نحوٍ يُضيع معه خيط السياق ويشتّت التركيز، يتواصل مسلسل الأحداث المستمرة منذ عامين وسط ذهول وارتجاج ذهني على وقع صدمات متلاحقة متفرقة الاتجاهات. ولا يكاد حبر الخبر الصحفي ينشف على ورق الجريدة حتى تُحيل ضربة إسرائيلية جديدة عدسات التصوير إلى زاوية أخرى. يريدها نتنياهو إذن حربَ سَبْقٍ تُنافسُ سرعة الزمن الإلكتروني، حربًا تُسابق كاميرات المصوّرين وتُسابق البث المباشر والاتصالات. ويريدها حربًا عسكرية على متبقّى من اللغة، حربًا تشلُّ إرادة الكلمات وتُحيّدها وتُفرغها من المعنى.

في قصيدته التي يبدأها برقصة دائرية حول جملة تقول: «دوائرُ حول الدوائر...» يخاطب محمود درويش صديقه سميح القاسم ويسائله:

«أما زلت تؤمن أن القصائد أقوى من الطائراتْ؟

إذن، كيف لم يستطع امرؤ القيسِ فينا مواجهة المذبحهْ؟»

أقتبس هذا المقطع الشعري وأنا أستعيد مشهد الأمير فيصل كما صوَّره ديفيد لين في فيلمه الشهير «لورنس العرب»: بدويًّا يحمل سيفه على ظهر حصانه، يطارد طائرات الإمبراطورية العثمانية ويطالب رجاله بالصمود تحت القصف.

تُثبتُ هذه الحرب فعلًا أن شعرية امرئ القيس وفروسيته تفشل أمام الطائرات المسيَّرة، وأن القصائد حمائمُ مردوعة تحت القصف. هذه الحرب المطوَّرة بالذكاء الاصطناعي تُحبط مناورات البلاغة الكلاسيكية. حربٌ تسبق اللغة التي تتأخر أكثر فأكثر عن مواكبة المسيَّرات والطيران الحربي الإسرائيلي، والذي يتعرَّف طيّاروه للمرة الأولى على سماواتٍ وأراضٍ جديدة من الفضاء العربي المشاع، خاصةً وهم يحلّقون على ارتفاعات منخفضة في أجواء العواصم العربية، برفاهية وحرية لا يتمتع بها طيّارو شركات الطيران المدني وطواقم مضيفيها في رحلاتهم الجوية.

ولا سخرية أكثر من أن تصبح بيانات الإدانة والشجب والتنديد المستنسخة، تلك التي ما زال النص العربي الرسمي في عجز مريع عن الخروج منها إلى صيغة أكثر إبداعًا وبلاغة، آخر الواصلين إلى قلب الحدث، وذلك بعد أن يكون الطيّارون الإسرائيليون قد عادوا سالمين من المهمة الرتيبة كي يُفرغوا ما تبقى من حمولة الذخيرة الأمريكية على ما تبقى من أبراج سكنية واقفة في قطاع غزة.

سيسجل التاريخ أن إسرائيل تغزو بلادنا وتتوسع على الأرض بسرعة تفوق مهارة كَتَبَةِ البيانات وقدرتهم على الطباعة السريعة في مكاتب وزراء الخارجية العرب. ولا ضير أن يعترف المرء بهزيمة أقلّها أن سلاح الجو الإسرائيلي قد تغلّب أخيرًا على بلاغة العرب المشهودة في الخطابة. لقد أخرجت القذائف الإسرائيلية الموجَّهة بالذكاء الاصطناعي أجهزة البلاغة التقليدية عن الخدمة... وتلك لَعَمري لسخرية جادّة لا يُبرز لها إلا شاعر من طراز مظفر النواب. 

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني