الترجمة بوصفها تطفلا على موائد الآخرين
السبت / 20 / ربيع الأول / 1447 هـ - 19:42 - السبت 13 سبتمبر 2025 19:42
كتبت غير مرة من قبل عن ظاهرة مقلقة طفت على السطح في السنوات الأخيرة في سوق النشر العربي، وهي تجرُّؤ بعض دور النشر على السطو على كتب مترجمة سبق نشرها من قِبَل دور أخرى، وإعادة طباعتها حرفيًّا دون بذل أي مجهود سوى تغيير الغلاف واسم المترجم (الذي يكون في بعض الأحيان اسمًا وهميًّا من اختراع دار النشر السارقة، أو مكتب الترجمة الذي تتعامل معه).
آخر فصول هذا السطو ما طالعتنا به مجلة 'اليمامة' السعودية في عددها الصادر قبل ثلاثة أيام (الخميس 11 سبتمبر 2025) من خلال مقال كتبه الشاعر السعودي عبدالله بيلا بعنوان: «أسطورة سيزيف لألبير كامو، بين ترجمتين' مع عنوان جانبي: 'هل اقتبست يارا شعاع ترجمة أنيس زكي؟'، وفي الحقيقة فإن هذا التساؤل سيتضح بعد قراءة المقال، والأدلة التي ساقها بيلا، أنه لم يكن في محله، لأن وصف 'الاقتباس' لا يعبر عن فداحة ما اقترفته المترجمة، كما سنرى.
الحديث هنا عن ترجمة السورية يارا سميح شعاع لكتاب 'أسطورة سيزيف' الصادر عن دار نينوى السورية عام 2021، التي كانت - وكما قال الشاعر السعودي - 'أقرب ما تكون نسْخًا ولصْقًا من ترجمة الأستاذ أنيس زكي حسن'؛ المترجم العراقي الذي سبقها في ترجمة الكتاب بالعنوان ذاته، ونُشِر عن دار مكتبة الحياة ببيروت عام 1983. كل ما أضافته المترجمة لمسات بسيطة ظهرت في تغيير طفيف في العناوين الرئيسة لفصول الكتاب، ويقول بيلا إنه 'بقراءة العملين والغوص في التفاصيل لن يجد القارئ أيّ فرقٍ ملموس بين الترجمتين عدا بعض الكلمات التي تم استبدالها بكلماتٍ أخرى في بعض المواضع في ترجمةِ الأستاذة يارا'، ثم يطرح سؤالاً أخلاقيًّا عن مدى الاستفادة التي أفادتها المترجِمةُ اللاحقةُ من المترجِم السابِق، وهل يمكن اعتبار هذه الترجمة ترجمةً أمينةً كما يُفترَض؟ وينبري للإجابة عن السؤال بالقول: 'ما وقفتُ عليه أظنه يتجاوز الاطلاع والاستفادة المعقولة من ترجمة أستاذ أنيس زكي حسن، إلى ما يمكن اعتباره انتحالاً لها'.
وقبل أن يطرح أدلته على هذا الانتحال يتحدث عبدالله بيلا عن نقطة في غاية الأهمية وهي أسلوب الكاتب (وينسحب أيضا على المترجم) الذي يرسّخ به بصمته الخاصة، بحيث يكون له قاموسُه اللغويُّ والمعجمي، وطريقته في بناء الجُمَل، واختيار المفردات، إذْ لا يمكن أن يتطابق كاتبان (أو مترجمان) في الأسلوب والعبارات معا. وبفقرة واحدة نقلت فيها يارا خطأين وقع فيهما المترجم العراقي سهوا أو 'بسبق قلم' - على حد تعبير الشاعر السعودي - استطاع أن يقنعنا بتورطها في انتحال الترجمة، وهذه الفقرة التي وردت في كلتا الترجمتين هي: (إذا كان الهبوطُ يتم أحيانًا بأسمى، فإنه يمكن أن يتم بغبطةٍ أيضًا. وهذه الكلمة لا تضم أكثر مما ينبغي. وإنني لا تصور سيزيف ثانية وهو يعود نحو الصخرة، والأسى كان في البداية...)، ويشرح بيلا أن كلمة «بأسمى» سبقُ قلمٍ من المترجم، والأصح «بأسى» لأنها ملائمة للسياق إذ يقابل الأسى هنا الغبطة، بينما جملة «لا تصور» المقصود بها «لأتصَوَّر»، وهذا ما يناسب سياق النص، ولكنَّ المترجمة نقلت الفقرة كما هي دون الانتباه إلى الخطأ في المعنى.
وقد عدتُ شخصيا إلى الترجمتين وتأكدتُ من نقطة أسلوب المترجم المتطابق في الكثير من العبارات، بل أحيانا فقرات كاملة، ما يؤكد ما ذهب إليه الشاعر السعودي من انتحال، لكن المفاجأة هي أنني عثرت ليارا شعاع على كتابين آخرين مترجَمَين للكاتب نفسه (ألبير كامو) وصدرا عن الدار نفسها (نينوى السورية)، وهما أيضا ليسا سوى نقل شبه حرفي لترجمتين سبقتاها.
الكتاب الأول هو المجموعة القصصية 'المنفى والملكوت' الذي نقله إلى العربية المترجم الفلسطيني خيري حماد، عام 1975، أي قبل ستة وأربعين عاما من صدور ترجمة شعاع عن دار نينوى عام 2021. وأول ما يلفت الانتباه هو عناوين القصص الست المتطابق في الترجمتين: (المرأة الزانية، المارق، الرجال الصامتون، الضيف، الفنان يعمل، الحجر النامي) رغم أن هناك بدائل كثيرة يمكن أن يستخدمها مترجِمٌ أَعمَلَ أسلوبه ولغته؛ فعلى سبيل المثال 'المارق' يمكن أن تترجم إلى 'المتمرّد'، 'المنشقّ'، 'الخارج'، 'العاصي'، إلخ، و'الزانية' يمكن أن تترجم إلى 'الخاطئة'، أو 'الفاجرة'، أو 'الماجنة' أو 'الفاسقة' إلخ. ويتضح نقل يارا شعاع الحرفي في كثير من الفقرات التي تبدو متطابقة مع لغة حماد رغم ما يشوبها من ركاكة أحيانا، كما يتبدى -على سبيل المثال لا الحصر - من هذه الفقرة في قصة 'المرأة الزانية' التي تتضح فيها الركاكة في عبارة 'سيارة الباص': 'توقفت سيارة الباص بغتة. وصرخ السائق بعض كلمات، باللغة التي سمعتها طيلة حياتها، من دون أن تفهم منها حرفاً واحداً. وسأله مارسيل: «ما حدث؟». فردّ السائق باللغة الفرنسية هذه المرة قائلًا: «أغلقت الأتربة الكاربوراتير، على ما يبدو». هذه الفقرة وردت حرفيا في كلتا الترجمتين، والعبارة الوحيدة التي غيرتها شعاع هي 'ما الأمر؟' بدلا من 'ما حدث؟'. وتنتهي قصة المارق بفقرتين متطابقتين يصعب تخيل أن مترجِمَيْن اتفقا عليهما حرفيا، وسأختار منهما الفقرة الأولى: 'إنه أنت يا سيدي الحبيب. انزع عنك ذلك الوجه الذي يحمل صورة الكراهية، وكن طيبًا الآن. فقد أخطأنا في الماضي. وسنبدأ من جديد. سنعيد بناء مدينة الرحمة، أريد أن أعود إلى وطني. نعم. ساعدني. هذا حسن. أعطني يدك'.
أما الكتاب الثاني الذي اقتاتتْ فيه يارا شعاع على ترجمة غيرها فهو 'الإنسان الأول' لألبير كامو، الصادر عن دار نينوى عام 2022. فهو يكاد يكون نقلًا حرفيًّا من ترجمة المترجمة المصرية الراحلة لبنى الريدي للكتاب الذي حمل العنوان نفسه، وصدر عن منشورات دار الهلال عام 1998. ويكفي أن أورد فقط هذه الفقرة الطويلة المتكررة في الترجمتين ليقف القارئ على مدى هذا النقل الحرفي:
')أجاب مالان وعيناه نصف مغمضتين: «شكرًا حقيقةً إنَّني متأثّر جدًّا»
- حسنًا، إنّني أضايقك أنت لا تحبّ الحديث شديد الوضوح كنت أريد فقط أن أخبرك أنّني أحبّك بكلّ عيوبك بالنسبة إلى كلّ الباقين، فإنّني أشعر بالخزي من عدم مبالاتي أمَّا من أحبّهم، فلا شيء أبدًا يمكن أن يجعلني أكفّ عن حبّهم، ولا حتّى أنا نفسي، ولا هم أنفسهم بالذات. هذه أشياء استغرق مني تعلّمها وقتًا طويلًا. والآن، أنا أعلم ذلك جيّداً وبعد أن أوضحت هذه النقطة فلنكمل حديثنا: «أنت لا توافق أن أحاول الاستعلام عن أبي»
- أوافقك تمامًا، كنت أخشى أن تصاب بخيبة أمل، إذ كان لي صديق ارتبط بشدّة بفتاة، وكان يريد أن يتزوّجها، لكنّه ارتكب خطأ عندما حاول جمع معلومات عنها'). انتهت الفقرة.
وهكذا فإنه يتضح من الأمثلة التي ضربناها في هذا المقال، أن الترجمة تغدو في بعض الأحيان مجرد تطفّل على موائد المترجمين الآخرين، وهو أمر يتطلب التصدي له بكل جدية، حفظا لحقوق المترجمين ودور النشر، وقبل ذلك القراء؛ هؤلاء الذين يفتحون قلوبهم وعقولهم للنصوص المترجمة بأمل أن تظل جسرًا أمينًا بينهم وبين العالم.