ثقافة

المنظومات العلمية قديمًا وحديثا لدى العمانيين

 

تراثنا الثقافي العماني خصب بالمنظومات، كُتبت لتسهيل حفظ العلوم، واستيعاب قواعدها لطلبة العلم، فهي ليست شعرًا دافقًا بالخواطر والرُّؤى ودافئًا بالإشراقات، إنما نظم موزون وفي الغالب على بحر الرَّجز متنوع القوافي، وعَرَف العمانيون النظم العلمي وكتبوه وصنفوا فيه كتبًا كثيرة، كغيرهم من المجتمعات المثقفة في الوطن العربي، غير أن تجربتهم بالكاد تُذكر عَرَضًا، في الكتب التي بحثت في المنظومات العربية، ولأن تراث أي بلد لا يخدمه بإخلاص إلا أهله، فقد أنجز الدكتور سالم بن سعيد البوسعيدي رسالة بحثية في النظم العلمي العماني، صدرت عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء عام 2020م، بعنوان «وتَحَدَّثَ العِلمُ شِعْرًا»، مُعتمدًا في كتابه المنهج التاريخي، فيما يتعلق بسرد تطور الشعر التعليمي العربي عبر العصور، والمنهج الوصفي التحليلي، عند ذكر نماذج من متون الشعر التعليمي، بما تتطلبه الرسائل العلمية، وفي دراسته توثيق لهذه التجربة العميقة، تصل زمنيًا إلى ما قبل ألف عام، يحددها الباحث بالقرن الثالث الهجري، ابتداءً بأقدم منظومة في التوحيد، لأبي المؤثر الصلت بن مالك الخروصي (ق3هـ).
يتألف كتاب سالم البوسعيدي من بابين، لخصا تجربة النظم العلمي والتعليمي لدى العرب والعمانيين، تناول الفصل الأول «تطور العقلية العربية، والحياة العلمية في عُمان، من نافذة الشعر التعليمي»، نقرأ فيه مفهوم الشعر التعليمي ومجالاته، ونشأة الشعر التعليمي، ومرحلة بداية الشعر التعليمي العربي، وتطوره ودوافع ازدهاره، ونماذج منه في مرحلة الازدهار، وبحث في مرحلة التراجع الفني، وسماته، وأثره في الحضارة الإسلامية، والأثر الدعوي واللغوي والحضاري والتربوي والفني وسبل الاستفادة منه.
وفي الباب الثاني فتح نافذة لتطور الحياة العلمية في عمان، متحدثًا عن أسباب ازدهار الشعر التعليمي الديني، والنُّظَّام الموسوعيين في القرن الرابع عشر، (من لهم منظومات متعددة في علوم الدين، ويتميز نظمهم بالشمول والطول)، وهم كُثْر في هذا الجانب، كما تحدث عن الشعر التعليمي اللغوي والأدبي والتاريخي والقصصي والسلوكي والطبي والفلكي، مع الحديث عن خصائصه الفنية، واستطاع الكاتب أن يغطي مساحة كبيرة، شملها النظم العلمي والتعليمي في عمان، متقصِّيًا له من بداياته إلى نهايات القرن الرابع عشر الهجري.
وهناك دراسة أخرى مختصرة، أعدها الباحث سيف بن عَدِي المسكري، بعنوان «المنظومات التاريخية نماذج عمانية»، ضمن إصدارات كِتاب «مجلة نزوى» عام 2024م، لامس فيها النظم التاريخي المتمثل في كتابين نظميين شهيرين، هما «سلك الدُّرَر» طبع في جزئين كبيرين، للشيخ خلفان بن جميِّل السيابي (ت: 1972م)، و«سلاسل الذهب» في عشرة أجزاء، للشيخ محمد بن شامس البطاشي (ت: 2000م)، (أفرد كليهما في ختام نظمه بابًا للسِّيَر، قصراه الناظمان على تاريخ عُمان في جانبه السياسي)، ومع أن بحث المسكري لا يزيد عن 90 صفحة، إلا أنه قدم رؤية حول النظم التاريخي العماني من مدخل الفقه، متمثلًا في «باب السِّيَر» من المنظومتين الكبيرتين، وهي التفاتة بحثية منه يشكر عليها.
كما لا تخلو مكتبة عمانية، من كتاب «الدعائم» لابن النَّضَر السَّمائلي، الذي يعده الباحث الدكتور سالم البوسعيدي في صدارة النظم التعليمي، مع ما يتمتع به ابن النَّضَر من حس شعري رفيع، يظهر في مطالع قصائده، ولا تزال قصائد ابن النضر (ق: 6هـ) بشرح ابن وَصَّاف النزوي، المطبوع في جزئين بغية طلاب العلم، لتميزه بقصائد عمودية بليغة، (28 قصيدة، نظم فيها كتاب «جامع بن جعفر»، ويبدأ النصوص بمقدمات غزلية أو طللية أو وعظية)، تتخصص كل قصيدة في نظم علم من العلوم الفقهية.
وتذهب بي الذاكرة وقراءة الكتب النظمية، إلى كتب اشتهرت كثيرًا في الثقافة العمانية، من بينها أرجوزة الصايغي المعروفة باسم «دلالة الحيران»، لناظمها سالم بن سعيد الصايغي (ق: 19م)، والتي لم نكن لنقرأها إلا مصوَّرة، حيث لم تُطبَع بعد في كتاب مستقل، وكتاب «جوهر النظام» للشيخ عبدالله بن حميد السالمي (ت: 1914م)، الذي سكن قلوب العمانيين، وقلما تخلو مكتبة منزلية منه، تتالت منه عشرات الطبعات، وما يزال المحققون يبدعون في تحقيقه، وكان آخر ما صدر منه بتحقيق الباحث سلطان بن مبارك الشيباني في جزئين، أبحر كثيرًا في كتابة مقدمة طويلة عن «الجوهر»، مُعتمدًا على مخطوطات كثيرة، لم تكن في يد المحققين الأوائل للجوهر، كالشيخ أبي إسحاق إبراهيم اطفيش (ت: 1965م)، والشيخ إبراهيم بن سعيد العبري (ت: 1975م).
وأسهمت مطبوعات وزارة «الثقافة» في السلطنة، منذ أن بدأ مشروع الطباعة لديها، في مطلع الثمانينات الماضية من القرن العشرين، في إظهار الكثير من الكنوز العلمية، فقهًا وأدبًا وفلسفة وفلَكًا، لدى العُمانيين عبر العصور، وكثير من المؤلفات النظمية صدرت عن الوزارة منذ الثمانينات الماضية، من بينها المؤلفات النظمية للشيخ سالم بن حمود السيابي (ت: 1993م)، نشرت له الوزارة مجموعة من كتبه النظمية، ككتاب «إرشاد الأنام في الأديان والأحكام» في أربعة أجزاء، و«العقود المُفصَّلة في الأحكام المؤصَّلة» في ثلاثة أجزاء، وكتاب «فتح الأكمام على الورد البسام» لسيف بن حمد الأغبري (ت: 1961م)، ولابنه سالم بن سيف الأغبري (ت: 1979م)، منظومة فقهية نشرت في كتاب: «النظم المحبوب في غاية المطلوب»، كما للشيخ عامر بن خميس المالكي (ت: 1928م) كثير من المنظومات، من بينها منظومته «موارد الألطاف بنظم مختصر العدل والإنصاف»، في أصول الفقه، وغيرها كثير من المؤلفات والأراجيز النظمية.
وأسهم «مركز ذاكرة عمان»، الذي تتواصل مسيرة عطائه منذ عام 2013م، بنشر مجموعة محققة من المنظومات التعليمية، كانت دفينة الخزائن وبطون الكتب، بعضها طبع تحت عنوان: «أشتات مؤتلفات» من ذخائر التراث العماني، وبعضها تحت عنوان «شذرات عمانية» في اللغة العربية، وهو مجموعة من المناظيم في اللغة العربية، كمنظومة «الفريدة المُرجانية» في عوامل النحو وبيان العربية، لناظمها أحمد بن مانع الناعبي (ق: 9هـ)، ومنظومة «لاميَّة الإعراب» في فنون من النحو، للشيخ عبدالله بن ماجد بن خميس العبري (ت: 1917م)، و«منظومة محمد بن علي المنذري (ت: 1869م)، في الصَّرف وتعليقاته عليها، و«منظومة ابن هاشم في المثلث من اللغة»، لخلف بن هاشم الرُّستاقي (ق: 9هـ)، ومنظومة «أسنى الذخائر في فك الدوائر»، أو «فتح الدوائر في كشف الستائر»، لناظمها العلامة المحقق سعيد بن خلفان الخليلي (ت: 1871م)، و«منظومة ميمية» في النحو لأبي سالم نبهان بن كهلان النبهاني، (النصف الثاني من: ق7هـ)، ومنظومة «إرشاد البَرِيَّة للأصول النحوية» لحمد بن محمد بن زهير الفارسي (ت: 1974م).
لم تكن هذه المناظيم العلمية والتعليمية متاحة قبل أن تصدر حديثًا، استخلصها الباحثون من خزائن العلم وبطون المخطوطات، لذلك فات على النحوي العماني أبي يوسف حمدان بن خميِّس اليوسفي (ت: 1965م)، شَرْح إحدى هذه القصائد، وله شرح لقصيدة نورالدين السالمي نشر بعنوان: «خلاصة العمل في شرح بلوغ الأمل»، صدر عن «وزارة الثقافة» 1986م، وفات على الشيخ اليوسفي الكثير من كنوزنا الثقافية المجهولة، التي لم يكن لتظهر في الوجود الثقافي الحديث، لولا همة بعض الباحثين العمانيين، ولا ننسى جهود المؤسسات الثقافية الرسمية، والمراكز الثقافية الأهلية، والمكتبات الخاصة كمكتبة «خزائن الآثار»، ومكتبة «الاستقامة» و«مكتبة الضَّامري» وغيرها، أسهمت في نشر النظم التعليمي.
ومع ذلك قلَّ من يبذل من الباحثين من غير العمانيين جهدًا في الوصول إليها، فقد قرأت كتاب «العلوم العقلية في المنظومات العربية»، دراسة وثائقية ونصوص، للدكتور جلال شوقي، كتاب زاخر بالنماذج العربية، تقصَّى فيه الباحث المنظومات من أراشيف العالم العربي والأجنبي، لكنه لم يُشِرْ في كتابه إلى الجهد الذي بذله المؤلفون العمانيون الأوائل، عدا أنه أشار إلى كتاب «فاكهة ابن السبيل» للطبيب الرُّستاقي راشد بن عميرة بن ثاني الهاشمي (ق: 10-11هـ)، وهو تأليف نثري في الطب، ولم يشر إلى أي من مناظيمه المشهورة عنه.
ولأن تراث أي وطن لا يخدمه بإخلاص إلا أبناؤه، فكان جديرًا بالباحثين توثيق هذه التجربة المديدة، بتقديم دراسات عنها، تقدم إضاءة وإضافة جديدة للتراث الثقافي العماني، في نثره الرَّفيع ونظمه البديع.