ثقافة

لماذا ليس علينا التفاؤل المفرط بترجمة الأدب العربي؟

استطلاع - حسن عبد الموجود

 

بخلاف الأسماء الكبرى مثل نجيب محفوظ ومحمود درويش والآن جوخة الحارثي، فإن ترجمة الأدب العربي تظل محدودة، وتقتصر على دور نشر صغيرة، أو في قاعات الدرس الجامعية، وغالباً لا نسمع بالترجمة إلا حينما ينشر الكاتب خبراً عنها، فهل علينا ألا نفرط في التفاؤل بما يُترجَم لنا حالياً؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال لنقرأ سويًا ما تحكيه المترجمة العُمانية ريم داوود، لجريدة «عمان».. منذ سنوات قليلة لاحظتْ ريم أن إحدى الصفحات الأدبية الأجنبية، قد طرحت سؤالًا على الفيسبوك، حول أعمال الأديب نجيب محفوظ، وفوجئت بأن أغلب الإجابات أظهرت نفور القراء (ومعظمهم من الأمريكيين) من مؤلفاته، وخاصة الثلاثية. كتب كثيرون أنها مملة وأنهم فشلوا في إتمام قراءتها، واتفقت الأغلبية على عجزها عن التعاطف مع شخصيات أعماله. 

تعلق: «دهشت وتساءلتُ، للحظة، إن كان ذلك بسبب عيوب في الترجمة، وفشل المترجمين في نقل أجواء النَص الأصلي، والحفاظ على أسلوب الأديب؟! ثم واصلتُ قراءة التعليقات، باهتمام، لأكتشف أن السبب الرئيسي في نفورهم من تلك الأعمال، هو استسلام أفراد الأسرة لتحكمات السيد أحمد عبدالجواد، وهو ـ في رأي الأغلبية ـ خنوع غير مفهوم وغير مبرر». 

فكرتْ ريم وقتها في أهمية مقدمات المترجمين والنقاد، في بدايات الكتب، عن الظروف والأوضاع التاريخية والاجتماعية، التي تمهد للقارئ ـ خاصة إن كان ينتمي لمجتمعٍ مغايرٍ تمامًا للمجتمع الذي تدور فيه أحداث العمل ـ ما سوف يقرأه، وتجعله أكثر استعدادًا لتقبله. 

ثم قرأتْ مؤخرًا تقييمات وقراءات لأعمال نجيب محفوظ، في أحد المواقع الأدبية الشهيرة، ولاحظتْ إعجاب القراء بها. تفاجأتْ ـ للمرة الثانية ـ بهذا التغير، وأدركت أن القارئ الأجنبي صار أكثر فهمًا وتقبلًا للثقافة العربية، بشكلٍ عام. ما السبب، تحديدًا؟ تقول: «لا أدري. لعل الأحداث السياسية في العامين الماضيين جعلته أكثر رغبة في التعرف على الثقافة العربية، بكافة صورها». 

وفي نقطة جديدة تعدِّد قائمة الأعمال العربية التي تُرجمت للغات العالمية مثل أعمال الطيب صالح وعبدالرحمن منيف وسنان أنطون وإلياس خوري وحنان الشيخ وهدى بركات وإبراهيم الكوني وبسمة عبدالعزيز وخالد الخميسي، بالإضافة إلى العديد من الكُتَّاب الفلسطينيين، كغسان كنفاني ومريد البرغوثي وإبراهيم نصر الله وربعي المدهون؛ وعدد لا بأس به من الكتَّاب الخليجيين، على رأسهم جوخة الحارثي. 

وتخلص إلى ملاحظة وهي أن المترجم الأجنبي لم يعد حريصًا على انتقاء عناوين وموضوعات تراثية، أو أيروتيكية، كما كان يحدث سابقًا، بل صار يُترجِم مؤلفاتٍ معاصرة، تعكس الواقع المُعاش، بسلبياته وإيجابياته معًا. وتقول: «يعجبني أن ترجمة الأعمال العربية لم تعد مقتصرة، بشكلٍ أساسي، على اللغتين الإنجليزية والفرنسية، كما كان يحدث سابقًا، بل صارت تشمل لغات عديدة أخرى، أوروبية وروسية وصينية وفارسية، وغيرها». 

وتؤكد أخيرًا أننا بحاجة إلى ترجمة المزيد من هذه الأعمال، وتعريف المجتمعات الأخرى بها، فالترجمة ـ كما تقول ـ ليست مجرد جسر لنقل ثقافة ما من مكانٍ لآخر، وإنما أداة مهمة في تقبل البشر لمفاهيم وعادات وديانات بعضهم البعض. 

سحر الجوائز 

أسأل الباحثة التونسية ابتسام القشوري: هل وجود جوائز كبرى كالبوكر العربية أسهم في ترجمة أعمالنا؟ فتقول: «نعم. لكن الجوائز لا تكفي بمفردها، فنسق ترجمة الأدب العربي بطيء جدًا». 

ما السبب؟ تقول: «الترجمة تنهل من الثقافات القوية ونحن من قرون نعيش في ضعف كبير جعلنا نخرج من خارطة العالم. الثقافة الغربية كوَّنت صورة نمطية عن أدبنا، واختزلته في العجائبية وحكايات ألف ليلة وليلة، وهي بالتالي ليست مضطلعة على الأدب المعاصر. كما أن لغتنا العربية ذات النظام البلاغي والجمالي الخاص بها يجعلها عسيرة على الترجمة، بالإضافة إلى قلة المترجمين عنها». 

أسأل مجددًا: ماذا نفعل إذا أردنا أن ننعش سوق ترجمة الأدب العربي؟ تجيب: «يجب وضع استراتيجيات تضمن وجود مترجمين مختصين، وألا يقتصر اهتمامنا بهم على التكوين الأكاديمي، والمهم هو التركيز على أعمال ذات بُعدٍ إنساني تجذب القارئ الأجنبي وتعرِّفه بالسياق الثقافي العربي، وأن نبتعد عن الأعمال التراثية». 

أعمال مغمورة 

هل تكفي الجهود الشخصية لبعض الكتاب، ممن ينشرون ترجماتٍ أجنبية لكتبهم، على حسابهم؟ 

تجيب الكاتبة اللبنانية المقيمة في كندا عزة طويل: «لا. تلك الكتب تبقى مغمورة جدًا وبالكاد يسمع بها أحد، وتظل حبيسة صفحات الكتَّاب على مواقع التواصل ومنازل أصدقائهم». 

ماذا يحكم سوق ترجمة الأدب العربي؟ أسأل وتجيب: «محكومة بمؤشرات نجاح يعتمدها الوكلاء الأدبيون والناشرون الأجانب، بناء على الجوائز الأدبية، وأرقام المبيعات، والتغطية الصحفية. هناك هيمنة للأسماء الكبرى، ومن يراقب حركة الترجمة يدرك أن المنافسة على (الأماكن) حامية». 

أسألها: في لبنان دائمًا تترجم أعمال إلياس خوري وهدى بركات ونجوى بركات، فما حظوظ الكتاب الجدد؟ تقول: «ضيقة جدًا إذا لم تكن لديهم علاقات شخصية، حتى إذا راكموا أعمالًا متعددة. نحن كعرب نترجِم آلاف العناوين سنويًا، وتُتَرجم عشراتٌ (بالكاد) من أعمالنا». 

ماذا تقترحين إذن لتحسين الوضع؟ تجيب: «أن نُعنى بما ننشر في بلداننا، بما يكفي لأقصد مكتبة في تورنتو مثلًا، فأجد في واجهتها كتبًا لمؤلفين عرب، وجدَت طريقها إلى القارئ الكندي. يسعدني خبرٌ عن كاتبٍ عربي تترجم أعماله في اليابان، أو في كوريا مثلًا، لكن ما يؤثر فيَّ أكثر هو أن أراها أصبحت مقروءة في تلك البلدان إلى درجة أن يقصد القارئ المكتبة لشرائها. نحن بحاجة إلى صندوق عربي للترجمة هدفه المساعدة في إيصال أفكار كتَّابنا للدنيا، واعتماد المنظمات الثقافية منحَ ترجمةٍ من العربية إلى اللغات، بحيث يُقدّم الكاتب طلبًا إليها، تجري مراجعته من قبل لجانٍ شفافة تعتمد معايير معلنةً وواضحة». 

أضواء مستحقة 

أنتقل مع الشاعر العُماني لبيد العامري إلى أدب سلطنة عُمان وأسأله إن كان حصول جوخة الحارثي على جائزة البوكر العالمية قد سلَّط الأضواء العالمية والعربية عليه بما يستحقه؟ فقال: «نعم. بسبب فوز جوخة زاد الاهتمام بأدبنا وانبعثت الترجمات الأجنبية له بما يستحق ويليق، وهذا الالتفات للأدب العُماني قرَّبه للقراء وللجوائز أيضًا، بعد أن كان بعيدًا ويُنظَر إليه باعتباره هامشًا رغم قوة النصوص والتجارب». 

لماذا إذن انصبَّ الاهتمام أكثر على الرواية العُمانية؟ يقول: «لأنها تتسيَّد المشهد الأدبي العربي والعالمي، لكن هناك تجارب عُمانية في أجناس أدبية أخرى تستحق الالتفات والاحتفاء والترجمة، كالشعر والقصة القصيرة والنصوص المفتوحة إلى جانب الدراسات العُمانية على الصعيدين الفكري والأدبي. عُمان تضج بالتجارب الجميلة التي تتناسل، وقبل هذه الحقبة كان الشعر ورواد قصيدة النثر العُمانية والكتابة العُمانية الحديثة المنفتحة والمدعمة بالثقافة والاطلاع الواسع والتنقل هي ما سلَّط لها الضوء بالترجمات، إذ كانت فترة تأسيس وتجارب عمانية وعربية مهمة استحقت ذلك الانتشار، كما استحقت هذه الحقبة الانتشار أيضًا». 

إلى فلسطين 

أنتقل إلى بلد آخر هو فلسطين، بسبب خصوصية أدبها، وأسأل الشاعر الفلسطيني مهيب البرغوثي: هل الترجمة أوصلت القضية إلى العالمية؟ فقال: «نعم. منحت أدبنا مكانة عالمية، فقد تمت ترجمة كل ما كتب غسان كنفاني ومحمود درويش وجبرا إبراهيم جبرا إضافة إلى ترجمة الكثير من الدراسات والقصص القصيرة». 

هل يعاني الأدب الفلسطيني من تهميش في الفترة الأخيرة؟ يقول: «هناك دور نشر عالمية أولويتها ليست القضية الفلسطينية، لكن في السنوات العشر الأخيرة هناك دور نشر أجنبية اهتمت اهتمامًا كبيرًا بكل ما يُكتَب من أدب الحرب أو الأدب الإنساني الفلسطيني. وما زالت فلسطين لديها الكثير لتقدمه عبر كتَّاب كبار استطاعوا أن يكونوا عنوانًا للقضية في الشعر والرواية والقصة من أمثال محمود شقير وزياد خداش وصافي صافي ووليد الشيخ». 

أزمة القصيدة 

في الجزء السابق من التحقيق كان هناك تركيز أكثر على الرواية، مما جعلني أتوجَّه بسؤال للشاعر الأردني من أصول فلسطينية معتز قطينة عن ترجمة الشعر ولماذا لا تأخذ نفس حجم الاهتمام بالسرد؟ يجيب: «تصطدم ترجمة القصيدة العربية بصعوبة نقلها إلى لغات أخرى، بوصف الشعر فنًا قائمًا على الإيقاع والصورة والرمز، وهي عناصر لا تُترجم بسهولة، على خلاف الآداب والمعارف الأخرى. حضور الشعر العربي في المكتبة العالمية لا يزال محدودًا، ويصدر أغلب الأحيان في طبعات صغيرة». 

هل تتفق معي أن الاهتمام العالمي بالشعر يرتبط بأسماء قليلة؟ يقول: بالتأكيد. أدونيس مثلًا الذي ارتبط اسمه بالحداثة الشعرية وحاور الثقافة الغربية فكرًا وشعرًا، وكذلك درويش الحاضر بقضاياه وإنسانه لدى الآخر، أما المشاريع الأخرى فمجرد أعمال فردية محدودة، بالرغم من أن المشهد الشعري المعاصر في العالم العربي أوسع بكثير من هذه الأسماء، ويضم أصواتًا مبدعة لا تجد طريقها إلى القارئ العالمي بسبب غياب مشاريع الترجمة المنظمة». 

تجربة فردية 

لكي تكتمل صورة التحقيق أردت أن أسأل كاتبًا عن رؤيته لترجماته؟ ووجَّهت هذا السؤال إلى الشاعرة اللبنانية فيوليت أبو الجلد فقالت: «الترجمة بالنسبة لي لم تكن يومًا مجرد وسيلة تقنية، بل حياة ثانية للنص. فقد صدرت لي مؤخرًا ترجمة جديدة ضمن أنطولوجيا «قصيدتي، جسدي» التي أشرف عليها الشاعر شوقي عبد الأمير، وقدم لها وترجمها محمد القاسمي، في مجلة Po& sie الفرنسية العريقة. إلى جانب ذلك، أنجزت سعاد لعبيز ترجمة كتابي: «لا أحياء على هذا الكوكب سواي» عبر دار «دورو» الفرنسية. تجربة سعاد لعبيز كانت مختلفة لأنها ليست مترجمة فحسب، بل شاعرة أيضًا، وهذا ما جعلها تقترب من النصوص بحدس ووعي خاصين، لتعيد خلقها بالفرنسية بما يوازي حرارة العربية وعمق صورها. وقد ساعد إلمامي بالفرنسية على أن يكون بيننا حوار مستمر. لقد تُرجمت نصوصي أيضًا إلى الإسبانية والإنجليزية والإيطالية والألمانية والفارسية، غالبًا بمبادرات فردية من شعراء أو مترجمين أو أصدقاء مهتمين، عبر مجلات وأنطولوجيات وملتقيات شعرية. كل هذا ساعد قصائدي على الوصول إلى قراء في أماكن متعددة من العالم». 

من خلال تجربتها الشخصية في السفر والمشاركة في فرنسا، لمست أثَر الترجمة لدى مَن يتلقون النص بلغتهم، أي تجسَّدت أمامها فعلًا وظيفة الترجمة الناجحة والمقنعة، فقد وجدت لدى المتلقين إدراكًا للمعاني في سياقها الشعري وبالتالي نجحت الترجمة. 

ومع ذلك، تعترف أن الأدب العربي يسجن خلف جدران الجامعة، ويُقرأ غالبًا بوصفه مرآة للهوية والتاريخ والسياسة، أكثر مما يُقرأ كأدب إنساني يتناول الحب والفقد وهشاشة الكائن وأسئلته الوجودية. بينما يستطيع القارئ في باريس أو مدريد أو برلين أن يعثر بسهولة على ترجمات من اليابانية أو الروسية أو حتى لغات صغيرة، نادرًا ما يقع بصره على ديوان عربي في مكتبة عامة أو مكتبة حي. 

تتمنى فيوليت أن تُعامَل الترجمة العربية كمشروع استراتيجي لا كمبادرات متفرقة. والأهم أن نتعاون مع مترجمين يملكون حسًا إبداعيًا، لا مجرد معرفة لغوية. فالمترجم الذي يقترب من النص ككاتب أو كشاعر، قادر على أن يمنحه حياة ثانية في اللغة الأخرى، لا مجرد نسخة باهتة عنه. 

أسألها: هل محدودية ترجمة الأدب العربي السبب في عدم حصولنا على جائزة نوبل ثانية بعد نجيب محفوظ؟ ترد: «لا أعتقد أنه السبب الوحيد، لكنه بلا شك عامل جوهري. الجائزة تحتاج إلى وصول النص بترجمة رفيعة المستوى، تحافظ على قوته وروحه، إلى لجان التحكيم العالمية. الأدب العربي غني بالطاقات والإبداع، لكن من دون ترجمة متقنة وواسعة، يبقى صوته خافتًا مقارنة بالأدب المترجم من لغات أخرى». 

مصالح تجارية وسياسية 

أسأل الكاتبة السورية أنيسة عبود: لماذا لا تهتم دور النشر الأجنبية بالأدب العربي قدر اهتمامها بأدب أمريكا اللاتينية أو الصين مثلًا؟ فتقول: دور النشر الغربية لا تعنيها عادات وتقاليد الشعوب العربية ولا المدارس الأدبية أو المنجزات الفكرية إلا بقدر ما تخدم مصالحها التجارية والسياسية». 

وتنهي حديثها قائلة: «الأشقاء في الخليج العربي يسخِّرون- مشكورين - طاقات مادية كبيرة لنشر الأدب العربي وتعزيز مكانته وقيمته وتميزه، قادرون على إيلاء الترجمة حيزًا أكبر في عملية التعريف بآدابنا ونشرها في أوروبا وغيرها. وهذا يتطلب مؤسسة متخصصة، علمية وقادرة على التفريق بين الغث والثمين. بعيدًا عن الرائج التجاري والفضائحي». 

انتهت أسئلتي حول ترجمة الأدب العربي وانتهت إجابات المشاركين، لكن لا تزال ثمة أسئلة وأفكار أخرى كثيرة، وكذلك حلم كبير بأن ينال الأدب العربي ما يستحقه، وأن يراكم عدة جوائز نوبل خلال القرن الحالي.