ثقافة

القدس من الداخل.. بين المقدس واليومي

 

زياد خداش -

نادرة هي الدراسات والأبحاث التي تبحث في الحياة اليومية للمقدسيين في تعالقها واشتباكها مع بعدها المقدس، كيف تعكسه وترى ذاتها فيه، يرصد هذا الكتاب مشاهد من الحياة اليومية، في البلدة القديمة، في القدس، من خلال قراءة، إثنوغرافية (وصف الحياة كما تعاش)، تظهر كيف تنطوي التفاصيل البسيطة على أبعاد دينية واقتصادية وثقافية معقدة، لا يسعى الكتاب إلى تقديم، سرد تاريخي تقليدي، أو تحليل سياسي جامد، بل يستكشف العلاقة الحية بين الإنسان والمكان، ويبرز كيف تتشكل الهويات، وتتنافس الروايات في فضاء مقدس، ومتنازع عليه، انطلاقا من المعايشة اليومية والملاحظة المباشرة.
الباحث الدكتور نافذ عسيلة، أهدى كتابه هذا إلى القدس قلب العالم الذي ينبض بالإيمان والجرج المفتوح على الرجاء، إلى هذا المكان الذي تلتقي فيه الحياة اليومية مع قداسة المدينة، إلى كل من يسير في أزقتها ويسجد في مساجدها، ويرتل في كنائسها، وإلى الأطفال في لهوهم والأمهات في غرسهن للانتماء. استخدم الباحث المنهج الإثنوغرافي في كتابة مشاهد القدس المقدسة وتتبع حكايات هذا المكان العتيق، ويركز هذا المنهج من البحوث الاجتماعية بشكل خاص على الملاحظة بالمشاركة المباشرة، حيث يتفاعل الباحثون مع البيئة أو الأفراد قيد الدراسة، ويوثقون أنماطًا معقدة، يصف الباحث الصراع في القدس بأنه صراع الهوية والتعايش، فهي ليست مجرد مدينة عادية، بل تمثل رمزا حضاريا وروحيا يعكس التقاء الديانات والثقافات، على مر العصور، ثم يتحدث عن تركيبتها السكانية، فيكتب أن العرب ارتبطوا بمختلف انتماءاتهم الدينية بهوية مدينة القدس، ارتباطا عميقا، يتجاوز حدود المكان ليصل إلى جوهر الانتماء الثقافي الوطني، ويذهب الباحث إلى نقاش فضاء المقدس والصراع: يشكل الحرم الشريف وحائط البراق مراكز متفردة للصراع الرمزي والسياسي حيث تتقاطع فيها الأبعاد الدينية والتاريخية مع الطموحات القومية والهويات المتنازعة، هذه المواقع يضيف الباحث، لا تقتصر أهميتها على كونها أماكن للعبادة بل تمثل رموزا للانتماء والسيادة، مما يجعلها نقاط توتر دائمة في المشهد المقدسي، وعن الحياة اليومية يكتب الدكتور عسيلة: نلاحظ في الحياة اليومية مظاهر تعايش محدود، تعكس توازنا هشا، بين المجموعات، المختلفة رغم التوترات الكامنة والخلافات العميقة، خاصة في فضاءات الأسواق والشوارع والمواصلات ففي البلدة القديمة، على سبيل المثال، يتشارك العرب واليهود إلى جانب السياح المساحات التجارية والمواقع السياحية والدينية، مما يخلق مشهدا ظاهريا من التعدد والتفاعل، لكن هذا التعايش سطحي ومقيد بسياقات معينة، حيث تحكمه الضرورات الاقتصادية والجغرافية لا التفاهم العميق أو القبول المتبادل، ويتوسع الباحث في نقاش الحياة اليومية بين الذاكرة والصراع وعن الطقوس والموسمية ويكتب عن حارة النصارى محللا فضاءها المقدس وهويتها، ويتأمل الوجود التاريخي للجالية المغربية، في القدس ثم خاتما الكتاب بالقول: إن التفاعل المباشر مع النسيج الحي للمدينة والملاحظة الميدانية ليست مجرد بقعة جغرافية، بل نص مفتوح يعاد كتابته باستمرار، في الأزقة والجدران وفي الذاكرة الحسية لسكانها، هي مدينة تتنفس من خلال الطقوس، وتقاوم من خلال التفاصيل، وتحمل في كل زاوية منها طبقات من المعنى المشترك والهوية المتحولة. إنها ليست مرآة لصراعات الماضي والحاضر، بل مسرح حي لصراع الانتماءات ولمحاولات التعايش التي تستمر رغم كل أشكال التفكك.
تحتاج القدس إلى مزيد من الدراسات والأبحاث والتأملات في فضاءاتها وتاريخها وجوانب حياتها المختلفة، لا أدري لماذا لا يوجد مركز أبحاث خاص بالقدس وفضاءاتها؟ حسنا فعل الدكتور الباحث نافذ عسيلة، وهو يحفر في طبقات لم يحفر فيها بعد، (المقدس والحياة اليومية)، عنوان مهم لم يقترب منه أحد حسب علمي حتى الآن، هذا كتاب ُيضاف بفخر إلى مكتبة الدراسات المقدسية.