ثقافة

"مدرس احتياطي".. صراعات الحياة المغلفة بالهشاشة!

 

كتب- عامر الأنصاري -

فتح العرض المسرحي المونودرامي 'مدرس احتياطي'، الذي قدمته فرقة آفاق المسرحية، باب الأسئلة في نفسي، فكم من مرغم على وظيفة أو وضع قهري عاش متصالحًا لمدة طويلة مع واقعه المخالف لقناعاته وطاقته النفسية والجسدية، دون مراعاة لحقه في العيش كما يريد، قبل أن ينفجر في وجه الجميع ليقول 'هذا أنا'.
بهذه التساؤلات خرجت من العرض، الذي يحق لي أن أصفه بالرهيب من عدة زوايا، بداية من الفكرة الرئيسية والأفكار الثانوية المعاصرة والمحاكية لواقع المجتمع، والديكور متعدد الإضاءات الذي يأخذ المتلقي إلى أزمنة ومونولوجات متعددة مع شخصيات جسّدها بطل العمل، والموسيقى التصويرية التي عززت من روح العمل وأخذت المشاهد إلى تقلبات الشخصية بين الضحك والألم والسكينة والصخب والجد والهزل، وأخيرًا الأداء القوي للفنان محمد الرقادي، فقد استطاع بمفرده على خشبة جامدة أن يصنع عرضًا مسرحيًا متكاملاً حمل فكرة رئيسية مستوحاة من نص مسرحي للكاتب الروسي أنطون تشيخوف تتمثل في أستاذ يقدم محاضرة 'حول أضرار التبغ' وهو مُرغم على ذلك، بينما في الواقع هو رجل مدخن.
قدّم محمد الرقادي العمل المسرحي برؤيته الإخراجية، وقام بعملية 'الدراماتورج' لتعمين النص وإضافة القضايا المجتمعية المتعددة بحبكة محترف استطاع الانتقال من فكرة إلى أخرى بكل سلاسة ومرونة، واستمر العرض قرابة الساعة والنصف في جو مليء بالحوارات والتفاعل، شادًّا انتباه الجمهور من بداية العرض حتى نهايته.
بدأ العمل بدخول البطل إلى فصل دراسي، مخاطبًا الطلبة ليمهّد لهم عن عنوان المحاضرة 'أضرار التبغ'. أضفت لغة الحوار الجادة مع الطلبة نوعًا من ربط الجمهور الحاضر بما يقول، بأنظار الرقادي الموجهة إليهم وكأنهم جزء حي من العرض المسرحي.
في سياق حديث بطل العمل للطلبة عن أهمية المحاضرة المعززة باستخدام الوسائل الحديثة من شاشة مرئية تتضمن الشروحات والمقاطع التوعوية، يفشل في تشغيل الشاشة، ليبدأ الحديث في الاتجاه نحو العفوية، فهو بالأساس لا يحب استخدام التقنية بشكل كبير، فقد أصبحت -في وجهة نظره- مُسَيطِرة على الحياة حتى بدا الإنسان يفقد قيمته البشرية.
هنا يأخذ الحديث منحى آخر بعيدًا عن المحاضرة، فهو أساسًا يعمل في شركة زوجته، وهي من تريده أن يدمج التقنية في محاضراته، فالزوجة تفرض عليه الكثير من الأمور، ورغم أنه 'مدرس احتياطي' فإن ما يقوم به يفوق حتى ما يقوم به المدرس الثابت.
يبدأ في الحديث عن علاقته بزوجته، وكيف يصبح الرجل مقيدًا حينما يكون موظفًا لديها، فهي تربط الكثير من الأمور ببعضها، حتى تأخره عن المنزل يُحسب كتأخر عن العمل.
وبالاسترسال في وصف العلاقة مع زوجته ينتبه البطل إلى أنه قد ذهب بعيدًا عن المحاضرة، فيعود إليها مرة أخرى، وما أن يمسك بطرف المحاضرة حتى تنسل منه فكرة مرتبطة بذكرى قديمة، فتتجه بوصلة الحديث مرة أخرى نحو الذكريات وما كان يعانيه مع والده، الذي لم يكن يؤمن بما يعانيه البطل صغيرًا من حالة نفسية مرضية تجعله لا يتحمل الإزعاج، وكيف للمرء أن يعاني في الحياة نتيجة جهل أهله وعدم امتلاكهم الثقافة البسيطة فيما يتعلق بالأمراض النفسية. وما إن يقتنع والده بما يعانيه حتى يلجأ إلى 'الراقي'، فيبدأ مرة أخرى بالمعاناة مع الصراخ، إضافة إلى الضرب بالعصي وترديد الصوت الذي ينخر في رأسه 'اخرج'!
على هذه الحالة أخذ العمل المسرحي في الانتقال من قضية إلى أخرى، معاناة المدرس الاحتياطي، مرورًا بسيطرة مواقع التواصل الاجتماعي على حياتنا وكيف أصبح الناس مزيفين أمام الشاشة، مرورًا بالذكاء الاصطناعي الذي أصبح صديق الكثيرين والملجأ لسماع آهاتهم وأسرارهم، إلى جانب العديد من القضايا التي تراوح عليها الرقادي قبل أن يعود إلى صلب الحكاية.
يتضح للطلبة أن مقدم المحاضرة أساسًا هو شخص مدخن، فهو لا يحرق صدره بأعواد الدخان فحسب، بل يحترق من داخله كل يوم في مواجهة العالم الزائف، العالم الذي أُجبره على إخفاء علبة السيجارة عن أعين من حوله، حتى حل ذلك اليوم الذي سرد حكايته في صورة موعظة للطلبة، وما الحكاية إلا تنفيس لشعور في داخله يتمنى لو ترجمه إلى حقيقة. فقال للطلبة عن ذلك الرجل الذي أخفى سر التدخين عن زوجته وأهلها لحوالي 30 سنة، ففي يوم اجتمع فيه أهل زوجته المليئون بالزيف والنفاق والخداع، مرتدين أقنعة وهمية تخفي ما في نفوسهم من الحقائق بصورة الوجوه المبتسمة، أراد الرجل أن يأخذ استراحة منهم، فاتجه نحو سطح البيت مشعلًا السيجارة تلو الأخرى، فانتبه له من في الأسفل، فرموه بأبشع العبارات، لكنه في ذلك اليوم واجههم، وصرخ في وجوههم: 'نعم أنا أدخن، ومنذ 30 سنة، من عرف منكم ذلك؟ من عرف أنني أحرَق كل يوم من دون سيجارة؟ من عرف ما أعانيه من ضغط نفسي حتى أرضي زوجتي المسيطرة والمتحكمة؟ من عرف حجم الألم مقابل أن أعيش كما تريدونه أنتم وليس كما أريد أنا؟' إلى آخر تلك العبارات التي كان وقعها على الجميع شديدًا، وكان بمثابة المرآة التي عرّفتهم بحقيقته، مرآة لا تزيف الواقع ولا تلمع الحقيقة إنما تكشفها كما هي، هنا كان الانفجار لرجل عاش تحت وطأة غلاف هش، لا بد أن ينفجر يومًا.
قُدم محمد الرقادي ، برفقة فريق العمل، العرضَ المسرحي في استوديو 'زيرو' بمنطقة غلا بمسقط بواقع ثلاثة عروض، كان اولها يوم السبت الماضي، والعرضين الآخرين كانا متتاليين يوم الأحد، وقد عكس الرقادي قدرة هائلة في تقديم العمل المونودرامي 'مسرحية الممثل الواحد' ومهارة عالية في توظيف لغة الجسد وتعابير الوجه ولغة الحوار الشعبية، ليقدم مزيجا متقنا بين الكوميديا السوداء والتراجيديا لتوصيل رسائل كثيرة تلامس القضايا الاجتماعية المتعددة.