من المسرح إلى العمارة والتصميم .. إشكالات في طريق الاقتصاد الإبداعي
الأربعاء / 17 / ربيع الأول / 1447 هـ - 10:01 - الأربعاء 10 سبتمبر 2025 10:01
3118797
محمد بن أحمد الشيزاوي -
سألتُ نفسي وأنا أهمّ بكتابة هذا المقال: هل هناك آفاق عديدة لنمو الاقتصاد الإبداعي لدينا؟ عدتُ بالذاكرة إلى مطلع التسعينيات عندما كنت أحضر مع الصديق العزيز علي العويسي عددا من العروض المسرحية التي كانت تعرض على «مسارح مسقط»، وبما أنني كنتُ حديث التخرج في تخصص اللغة العربية وآدابها وكنت مولعا بالتحليل النقدي كنتُ أدوّن ملاحظاتي وأعيد كتابتها كقراءات نقدية يتم نشرها على الصفحات الثقافية بجريدة «عمان».
مرّ زمنٌ طويل على تلك العروض. ولكن هل تطور المسرح ليكون نشاطا اقتصاديا قائما بذاته ويستطيع تمويل أنشطته وفعالياته دون اعتماد على دعم حكومي أو من القطاع الخاص؟ وهل تطور المسرح بالشكل الذي يُقنع المجتمع بشراء تذاكر المسرحيات مثلما يشتري تذاكر مشاهدة الأفلام التي تعرض على شاشات السينما في مسقط وصحار وصلالة ونزوى؟ قد يكون حال المسرح شبيها بحالة عدد آخر من الفنون التي لا تزال تبحث عن نفسها.
قطع أفكاري صوتُ شاب عماني استغل هو وزملاؤه خلوّ المقهى من الناس لتسجيل «موّال» يتم بثه على تطبيقات التواصل الاجتماعي؛ لأسأل نفسي عن هذه المواهب التي تبحث لنفسها عن متنفس بين فضاءات العالم وتشابكاته، وهمومه وأحزانه، وأفراحه ومسراته. قال لي أحد الأصدقاء من الفنانين التشكيليين: إن حالة هذا القطاع -أي قطاع الفنون التشكيلية- لا تختلف كثيرا عن حالة المسرح وإن عددا من الفنانين التشكيليين تركوا مهنتهم.
عندما نظرتُ إلى قطاع الإعلام وجدته أيضا واحدا من قطاعات الاقتصاد الإبداعي التي لم تُعطَ حقها بالشكل الذي يجعلها أحد قطاعات التنويع الاقتصادي، وكم يحزنني أن تعهد شركاتُنا الحكومية والعديد من شركات المساهمة العامة لتنفيذ خططها وأنشطتها الإعلامية لمؤسسات من خارج سلطنة عُمان وهو ما يقلّص فرص نمو هذا القطاع وتنمية مواهبه وإمكانياته وجعله قطاعا اقتصاديا وليس مجرد قطاع خدمي.
القطاعات الهندسية المرتبطة بالعمارة والتصميم والفنون والابتكار هي الأخرى جزء من الاقتصاد الإبداعي، وعندما يتم الاهتمام بكوادرها وتنمية مواهبهم يمكنهم مضاعفة المكاسب الاقتصادية، والمساهمة في زيادة القيمة المضافة للمنتجات المحلية، وتوفير فرص عالية القيمة للموهوبين في هذا القطاع بما يرفع من عائدات القطاعات الصناعية والسياحية وقطاع الإنشاءات، ويضيف بعدا حضاريا يعكس الهوية الثقافية والتقاليد المحلية كما نراه واضحا في العديد من المنتجات التي يتم عرضها في بعض الأسواق المحلية التي تشهد إقبالا مميزا من السياح.
الإعلام والفنون المسرحية والتشكيلية وفن العمارة والتصميم والفنون الإبداعية الأخرى أصبحت جزءا أساسيا من الاقتصاد الإبداعي في مختلف دول العالم، ويمكنها -في حالة تطويرها والاهتمام بها- المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي وتوفير فرص العمل أمام الشباب وتنمية مهاراتهم وقدراتهم. في الولايات المتحدة -على سبيل المثال- بلغت مساهمة قطاع الفنون والثقافة في الاقتصاد الأمريكي خلال عام 2023 حوالي 1.2 تريليون دولار بما يعادل 4.2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وفي كندا بلغ إجمالي إيرادات الفنون المسرحية 5.5 مليار دولار وبلغت مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي 2.8 مليار دولار، وفي الاتحاد الأوروبي تقدر القيمة المضافة للقطاع الثقافي والإبداعي بنحو 200 مليار يورو ويوفر القطاع أكثر من 8 ملايين وظيفة، وبشكل عام تشهد الصادرات الثقافية العالمية نموا سنويا متصاعدا، وبحسب الإحصائيات فإن صادرات الخدمات الثقافية العالمية بلغت في عام 2022 حوالي 1.4 تريليون دولار فيما بلغت صادرات السلع الثقافية 713 مليار دولار.
بطبيعة الحال لا يمكن مقارنة الاقتصاد الثقافي والنشاط الإبداعي في الدول العربية بالاقتصاد الثقافي في الدول الغربية كالولايات المتحدة وكندا وفرنسا أو اليابان وكوريا الجنوبية، نظرا للعديد من الاعتبارات، غير أن إمكانيات الإبداع لدينا متوفرة، ويمكننا تطوير هذا القطاع ليكون أحد القطاعات الاقتصادية؛ فمقومات نمو القطاع المتعلقة بتوفر المواهب موجودة لدينا، وبشكل دائم نرى ونشاهد تكريم المواهب العمانية من الجنسين في العديد من المحافل والمسابقات الإقليمية والدولية.
لعل أبرز الإشكالات في طريق نمو الاقتصاد الإبداعي هي أننا لا ننظر إلى النشاط الإبداعي على أنه مجال يمكن تنميته ليشكل أحد مصادر التنويع الاقتصادي، وكثيرا ما ينظر المسؤولون إلى هذا القطاع على أنه قطاع «يستنزف» خزينة الدولة إن وجهوا إليهم جزءا من الإنفاق العام، وفي حقيقة الأمر لا يمكن لأي قطاع أن يدر دخلا إن لم ننفق عليه ونقوم بتنميته، فقطاع النفط والغاز والقطاعات الصناعية وقطاعات الموانئ والخدمات اللوجستية لا يمكنها تحقيق أهدافها في التنويع الاقتصادي إن لم نستثمر فيها، والأمر نفسه ينطبق على قطاعات الاقتصاد الإبداعي بما في ذلك الإعلام، والفنون المسرحية والتشكيلية، والصناعات الحرفية، والصناعات المعتمدة على الابتكار، والمجالات الهندسية المرتبطة بالفنون والابتكار كالعمارة والتصميم؛ فهذه القطاعات تحتاج إلى مزيد من الاستثمار لتكون مساهما في التنويع الاقتصادي وفي تعزيز قطاع التشغيل، وبدون تنمية القطاع والاهتمام به لا يمكن للاقتصاد الإبداعي أن يكون داعما لأهداف التنويع الاقتصادي.
قد تكون إشكالية الاستثمار في الاقتصاد الإبداعي هي أن النتائج قد تأخذ وقتا أطول خاصة إذا تعلّق الأمر بصقل إمكانيات المواهب وتنميتها، فعلى سبيل المثال يمكننا إنشاء مصنع خلال عامين ويتم تمويله من قبل البنوك والمؤسسات المصرفية الأخرى ثم نقوم بدفع مستحقات مؤسسات التمويل من العائد الذي يحققه المصنع، لكن الأمر في عدد من قطاعات الاقتصاد الإبداعي يختلف كليا، إذ لا يمكن لمصرف أن يموّل إنشاء مرسم للشباب أو تشييد مسرح أو ابتعاث مجموعة من الإعلاميين والمصورين والمسرحيين والفنانين التشكيليين والمهندسين في قطاع العمارة والتصميم للدراسة في الخارج وصقل خبراتهم إلا ضمن برامج المسؤولية الاجتماعية ووفقا لميزانية محدودة جدا؛ الأمر الذي يحدّ من تطلعاتنا لتنمية قطاعات الاقتصاد الإبداعي.
إن طبيعة الاقتصاد الإبداعي هي أن العائد على الاستثمار فيه يأخذ وقتا أطول حتى يحقق النتائج المطلوبة بعكس القطاعات الإنتاجية التقليدية كالصناعة والزراعة والنفط والغاز وصيد الأسماك، وإذا كان العائد في هذه القطاعات قد يتحقق خلال فترة لا تتجاوز 5 أعوام إلا أن العائد من الإنفاق على قطاعات الاقتصاد الإبداعي خاصة ما يتعلق بالإعلام والمسرح والعمارة والفنون التشكيلية بشكل عام يحتاج ربما لأكثر من عقد من الزمان بل إن الـ100 شخص الذين نهتم بهم ونقوم بتنمية وصقل مواهبهم ونرسلهم في دورات تدريبية إلى الخارج لا يحقق جميعهم تطلعاتنا خاصة إذا كان الاختيار عشوائيا ودون ضوابط ومعايير واضحة ودقيقة.
وفي نظرنا لا تقتصر التحديات التي تواجه تطوير وتنمية الاقتصاد الإبداعي على التمويل، ومستوى الاهتمام بقطاعات الاقتصاد الإبداعي والاستثمار فيها من قبل الجهات الحكومية والشركات، أو مستوى الاهتمام بالمواهب في المدارس والجامعات، بل هناك أيضا تحديات أخرى تتعلق بمستوى الوعي العام بأهمية الاقتصاد الإبداعي في التنمية والتنويع الاقتصادي وتوفير فرص العمل والحد من ارتفاع معدلات الباحثين عن عمل، إذ أن تأخر توظيف مخرجات التعليم العالي في قطاعات الاقتصاد الإبداعي يقلل من فرص استفادتنا من مواهبهم وفي الوقت نفسه يقلل اهتمامهم بتنمية مواهبهم وصقل خبراتهم خاصة إن لم يتوفر المكان الذي يستطيعون فيه ممارسة هواياتهم، كما أن هناك تحديات أخرى تتعلق بتداخل الصلاحيات بين الجهات الحكومية المعنية بهذه القطاعات، وتحديد المسؤول عن تنمية المواهب وتطويرها وتحفيزها، وهناك أيضا تحديات أخرى تتعلق بالطلب على منتجات وخدمات الاقتصاد الإبداعي.
إن المرحلة المقبلة تتطلب تغيير نظرتنا إلى الاقتصاد الإبداعي وبما يؤدي إلى تعزيز مساهمته في الاقتصاد الوطني، وبناء نظرة إيجابية تجاهه، هناك شركات لا تؤمن بضرورة الإنفاق على تطوير المواهب الفنية لديها لتعزيز الإنتاج وبناء علامتها التجارية؛ الأمر الذي يقلل من قدراتها على المنافسة محليا وخارجيا، كما أن العمل على بحث التحديات والإشكالات التي تواجه الاقتصاد الإبداعي مطلب أساسي لتعزيز أدائه الاقتصادي، وبما أننا مقبلون على خطة خمسية جديدة مطلع العام المقبل فإننا نتطلع إلى إدراج الاقتصاد الإبداعي ضمن هذه الخطة وبما يعزز إمكانيات القطاع ويرفع من مستوى مساهمته في الاقتصاد الوطني ويُعيد تشكيلَ الوعي بأهمية الاقتصاد الإبداعي وبأهمية ثراء المسرح والفنون التشكيلية والإعلام وفن العمارة والتصميم؛ فهي قطاعات إنتاجية مهمة تحتاج إلى مزيد من الاهتمام والتنمية والاستثمار.
محمد بن أحمد الشيزاوي كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية