عُمان الاقتصادي

"الإبداع" و"الخيال".. قوة صاعدة في الاقتصاد العالمي

 


'عمان' بعد أن كان يصنف كـ 'نشاط ثقافي أو ترفيهي'، تحول الاقتصاد الابداعي خلال العقدين الماضيين إلى قطاع اقتصادي متكامل يساهم في الناتج المحلي الإجمالي ويوفر ملايين الوظائف حول العالم، حيث تشير تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) لعام 2024، إلى أن الصناعات الإبداعية تساهم بما يتراوح بين 0.5% و7.3% من الناتج المحلي الإجمالي في الدول التي تتوافر عنها بيانات دقيقة، كما تشغل ما بين 0.5% و12.5% من القوى العاملة، وهو ما يعكس أهمية هذا القطاع ليس فقط كرافد اقتصادي، وإنما كمنصة لتوليد فرص العمل وبناء رأس المال البشري.
قدّر البنك الدولي في تقريره 'الوظائف في الاقتصادي البرتقالي' أن القيمة السوقية للاقتصاد الإبداعي بلغت نحو 985 مليار دولار في عام 2023، وهو رقم يضع الصناعات الإبداعية ضمن قائمة الاقتصادات الكبرى عالميًا، ويتوقع التقرير أن يستمر هذا النمو المتسارع ليصل حجم القطاع إلى ما يعادل 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030. وتؤكد هذه التقديرات أن الإبداع لم يعد نشاطًا جانبيًا، بل أصبح قطاعًا واعدًا يتقدم بخطى ثابتة ليكون من أعمدة الاقتصاد العالمي، ويشير التقرير كذلك إلى أن الاقتصاد الإبداعي بات مسؤولًا عن نحو 6.2% من الوظائف عالميًا، وهو ما يعني ملايين فرص العمل، معظمها تذهب للشباب والنساء في الاقتصادات النامية، ما يجعله قطاعًا حيويًا لمعالجة قضايا البطالة وتعزيز المشاركة الاقتصادية للفئات الأكثر حيوية في المجتمع.
وعلى مستوى الإيرادات العالمية، فتشير بيانات اليونسكو التي استشهد بها تقرير الأونكتاد إلى أن الصناعات الثقافية والإبداعية تولد إيرادات سنوية تقارب 2.3 تريليون دولار، أي ما يعادل 3.1% من الناتج العالمي. ويشير خبراء الاقتصاد الثقافي في التقرير إلى أن هذه العوائد لا تقاس فقط بالأرقام المالية، بل أيضًا بما تخلقه من فرص للتنمية المستدامة، سواء عبر خلق وظائف جديدة، أو دعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة، أو تنشيط السياحة الإبداعية، أو حتى تحسين جودة الحياة في المدن من خلال الفنون والفعاليات الثقافية
وتمكنت الصناعات الإبداعية من تجاوز معدلات نمو قطاعات أخرى تقليدية في التجارة العالمية، فوفقًا لبيانات الأونكتاد، شهدت التجارة الدولية في السلع والخدمات الإبداعية نموًا ملحوظًا خلال العقدين الماضيين، حيث ارتفعت صادرات السلع الإبداعية أكثر من 3.5 مرة، بينما قفزت صادرات الخدمات الإبداعية بما يزيد عن 2.8 مرة خلال العقد الأخير وحده. في حين بلغت صادرات السلع الإبداعية في عام 2022 نحو 713 مليار دولار، وهو رقم يعكس الدور المتنامي للمنتجات الإبداعية مثل الأزياء والتصميم والحرف اليدوية والوسائط المادية. وفي المقابل، وصلت صادرات الخدمات الإبداعية في العام نفسه إلى 1.4 تريليون دولار، أي ضعف قيمة السلع، ويعود ذلك إلى النمو المتسارع في قطاعات مثل البرمجيات، البحث والتطوير، والإنتاج السمعي البصري الرقمي، ما يوضح أن الخدمات أصبحت المحرك الأكبر للاقتصاد الإبداعي العالمي
وفي قراءة أخرى للبيانات، نلاحظ أن حصة السلع الإبداعية من إجمالي الصادرات السلعية العالمية بلغت 2.9% في عام 2022، بعد أن كانت في حدود 3.1% قبل عقدين. وعلى الرغم من التراجع الطفيف في النسبة، فإن القيمة المطلقة للصادرات تضاعفت عدة مرات ما يعني أن السوق الإبداعية تنمو بوتيرة أسرع من توسع التجارة السلعية ككل، أما على مستوى الخدمات فقد ارتفعت حصتها من مجمل الصادرات العالمية من 12% عام 2010 إلى 19% عام 2022، وهو تطور نوعي يؤشر إلى أن الإبداع بات جزءًا لا يتجزأ من التجارة الدولية في الخدمات، بل مرشحًا لأن يتجاوز حاجز 20% خلال السنوات المقبلة.
إبداع محدود ومركز
ورغم النمو الكبير الذي تعكسه الأرقام، إلا أن التجارة العالمية في الصناعات الإبداعية لا تزال شديدة التركز، إذ تستحوذ أكبر عشر دول على ما يقارب 70% من صادرات السلع الإبداعية و69% من صادرات الخدمات الإبداعية، وقد أشارت بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) إلى أن الدول النامية تقود صادرات السلع بفضل تفوقها في قطاعات مثل الموضة والمنسوجات والحرف اليدوية، بينما تهيمن الدول المتقدمة على صادرات الخدمات بفضل ريادتها في التكنولوجيا والبرمجيات والإنتاج الإعلامي.
وتأتي الصين في مقدمة مصدري السلع الإبداعية بحصة تفوق ربع السوق العالمية، خصوصًا في قطاعات التصميم والأزياء، أما في جانب الخدمات، فتتصدر الولايات المتحدة القائمة بصادرات تجاوزت 244 مليار دولار في عام 2022، تليها أيرلندا التي حققت 231 مليار دولار بفضل شركات التكنولوجيا متعددة الجنسيات، ثم المملكة المتحدة وألمانيا والصين وسنغافورة بالإضافة إلى بروز آسيا كمحور رئيسي في السنوات الأخيرة
مساهمة فارقة في سوق العمل
باتت الصناعات الإبداعية توفّر نحو 6.2% من الوظائف على مستوى العالم وفقًا لبيانات البنك الدولي، وهذه النسبة تعادل عشرات الملايين من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، وتتوزع على قطاعات متنوعة تشمل الإعلام والنشر والتصميم، والفنون البصرية، والأزياء والموسيقى، والألعاب الإلكترونية، ويُنظر إلى هذه الوظائف باعتبارها نوعية ومرنة كونها تعتمد على المهارات الإبداعية والتقنية في آن واحد، وهو ما يجعلها جاذبة للشباب والنساء في الاقتصادات النامية
أما بيانات الأونكتاد فتؤكد أن الاقتصادات النامية خاصة في آسيا وأمريكا اللاتينية باتت تشهد توسعًا متزايدًا في الوظائف الإبداعية، الأمر الذي يساعد على إدماج الشباب في سوق العمل وتقليل الفجوة بين الجنسين، ففي بلدان مثل الفلبين وإندونيسيا، أسهمت الصناعات الإبداعية في تشغيل ملايين الشباب بينما أتاح قطاع الإعلام الرقمي فرصًا واسعة للنساء للعمل الحر وريادة الأعمال عبر المنصات الرقمية. من جانب آخر، تشير بعض التقديرات إلى أن الصناعات الإبداعية تسهم بنحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر عام 2020، مع توظيف ما يقارب مليوني شخص في هذا القطاع. وهذا المثال يعكس إمكانية أن يصبح الاقتصاد الإبداعي رافدًا رئيسيًا للتوظيف في العالم العربي، إذا ما جرى الاستثمار في القدرات البشرية والبنية التحتية الرقمية.
وترى اليونسكو أن الوظائف التي يولدها الاقتصاد الإبداعي لا تقتصر على مردودها المالي فحسب، بل تمتد لتشمل أثرًا اجتماعيًا أوسع فهي تساهم في تعزيز الهوية الوطنية، وتدعم التنوع الثقافي، وتخلق مساحات للإبداع المجتمعي، وهو ما ينعكس في تحسين جودة الحياة وزيادة التماسك الاجتماعي.
ورغم هذه الأرقام المبشرة، فإن تقرير الأونكتاد يحذر من تحديات عدة تواجه التوظيف في الاقتصاد الإبداعي، من أبرزها: ضعف الحماية الاجتماعية للعاملين المستقلين والفنانين، وغياب التشريعات التي تضمن حقوق الملكية الفكرية، والفجوة الرقمية بين الدول المتقدمة والنامية.
اتجاهات مستقبلية مُبشرة
وبحسب أحدث قراءات البنك الدولي ، بلغت القيمة السوقية للاقتصاد الإبداعي حوالي 985 مليار دولار في 2023 وهو مرشح لأن يشكل ما يقارب 10% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2030، هذا التقدير يعكس توقعات بزيادة ضخمة في القيمة السوقية، مستفيدة من التحول الرقمي المتسارع والطلب المتزايد على المحتوى والخدمات الإبداعية.
أما صادرات السلع الإبداعية فبلغت 713 مليار دولار وفقًا لبيانات، بينما وصلت صادرات الخدمات الإبداعية إلى 1.4 تريليون دولار في العام نفسه، وتوقّع الأونكتاد أن تستمر صادرات الخدمات في قيادة النمو خلال السنوات المقبلة، لتشكل أكثر من 20% من مجمل تجارة الخدمات العالمية بحلول 2030، بعد أن كانت نسبتها 19% فقط في 2022.
القطاعات الأسرع نموًا
•الإعلان الرقمي: من المتوقع أن يتجاوز نصيبه 60% من إجمالي سوق الإعلان العالمي بحلول 2026.
•ألعاب الفيديو: بلغت إيراداتها 227 مليار دولار في 2023، ومن المنتظر أن ترتفع حصتها من سوق الترفيه العالمي إلى 10.9% في 2026، مقارنة بـ 6.1% فقط في 2017.
•الألعاب السحابية: مرشحة للنمو بمعدل 45.5% سنويًا حتى 2030 لتصل إلى قيمة تقارب 20.9 مليار دولار .
•الموسيقى الرقمية: سجلت إيرادات قدرها 28.6 مليار دولار في 2023، ويتوقع أن يستمر نموها بمعدلات مزدوجة الرقم خصوصًا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية.
المستقبل والاستدامة
ويلفت تقرير الأونكتاد إلى أن الذكاء الاصطناعي سيعيد رسم ملامح الاقتصاد الإبداعي في العقد المقبل، حيث بدأ بالفعل في إنتاج الموسيقى والأعمال الفنية، وأتمتة عمليات النشر والترجمة، وتعزيز قدرات التسويق والإعلان. لكن التقرير يحذر في المقابل من مخاطر احتكار شركات التكنولوجيا الكبرى، وضعف حماية الملكية الفكرية، مما قد يهدد حقوق المبدعين التقليديين
وإلى جانب الأبعاد الاقتصادية، يركز الأونكتاد على أن الاستدامة التي ستصبح ركنًا أساسيًا في مستقبل الصناعات الإبداعية. فمثلاً، صناعة الموضة وحدها مسؤولة عن حوالي 10% من الانبعاثات الكربونية العالمية، وهو ما يستدعي التحول نحو ممارسات أكثر صداقة للبيئة. كما أن تعزيز الشمولية وتمكين النساء والشباب سيكونان شرطين رئيسيين لاستمرار مساهمة هذا القطاع في التنمية البشرية.
المصادر:
1.البنك الدولي، تقرير الوظائف في الاقتصاد البرتقالي (Jobs in the Orange Economy).
2.مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، تقارير دورية حول مساهمة الاقتصاد الإبداعي في الناتج المحلي العالمي.
3.منصة مجموعة العشرين (G20 Insights)