عُمان الاقتصادي

محمد الحارثي: الإبداع ليس ترفًا بل صناعة قادرة على تحريك الاقتصاد العُماني

حاورته - رحمة الكلبانية

 


منذ أكثر من عقد وجد محمد الحارثي وشريكه مصطفى اللواتي نفسيهما أمام مسار مختلف، بدأ كهواية طلابية في الجامعة ثم تحوّل تدريجيًا إلى مشروع متكامل يضع بصمته اليوم في المشهد الإبداعي العُماني. وقد عايش الحارثي بصفته مؤسس شركة «عكاسة» للإنتاج الفني تجربة ميدانية جعلته قريبًا من تفاصيل الاقتصاد الإبداعي في السلطنة، بكل ما يحمله من فرص وتحديات.
وفي هذا الحوار لا يتحدث الحارثي عن عكاسة كتجربة شخصية فحسب، بل يقدم قراءة أوسع لمسار الصناعات الإبداعية في سلطنة عمان، فهو يرى أن غياب البيانات الدقيقة يعيق رسم صورة واضحة عن حجم السوق والفرص المتاحة، وأن التصورات السائدة سواء لدى صناع القرار أو بين عامة الناس لا تزال تحصر الإبداع في خانة الترف والهواية، في حين أنه قادر على أن يكون رافدًا اقتصاديًا حقيقيًا. وغيرها من الآراء والتجارب تقرأونها في السطور التالية.
-كيف تشكلت البدايات الأولى لشركة «عكاسة» في ظل غياب سوق محلي متكامل للإنتاج الفني؟
عندما بدأنا لم يكن هذا القطاع منتشرًا محليًا، وكانت أغلب المؤسسات تتجه للتعاقد مع شركات أجنبية للحصول على الخدمات التي نقدمها اليوم، حتى الوصول إلى المعدات آنذاك لم يكن بالأمر السهل فالإمكانات محدودة والتكاليف مرتفعة، لكن في عام 2010 ظهر تحول تقني مهم حيث أصبحت هناك كاميرات احترافية متاحة بأسعار معقولة للهواة تمنح نتائج تضاهي العمل الاحترافي، وهذا التطور كان دافعًا قويًا ساعدنا على الدخول إلى المجال بثقة أكبر.
كنت أنا ومجموعة من الزملاء في الجامعة ننتمي إلى تخصصات وخلفيات مختلفة نشارك في الأنشطة الطلابية والفعاليات الجامعية، وحققنا مراكز متقدمة في عدد من المسابقات الأمر الذي أعطانا الثقة بأننا قادرون على المضي أبعد، ومع انخراطي أنا وشريكي في دراسة تخصص الإعلام، بدأ المشروع يتبلور شيئًا فشيئًا بين مقاعد الدراسة والممارسة العملية، والجامعة نفسها كانت من أوائل العملاء الذين تعاملوا معنا قبل التخرج.
ومن أبرز التجارب التي شكلت نقطة تحول بالنسبة لنا مشاركتنا في إنتاج سلسلة «مخطوطات مهاجرة» مع تلفزيون عمان، والتي تطلبت تصويرًا في ست دول حول العالم، بالنسبة لطلبة لم يكملوا دراستهم بعد، كانت تلك التجربة تحديًا كبيرًا، لكنها أيضًا شكلت قفزة نوعية، ويمكنني القول إن عام 2011 مثّل البداية الحقيقية لانطلاقتنا.
-هل كان السوق مستعدًا آنذاك لاستقبال شركة محلية ناشئة في مجال الإنتاج الإعلامي؟
في الحقيقة، حين انطلقنا كان هناك طلب جيد على هذا النوع من الخدمات، خصوصًا مع بداية انتشار ثقافة ريادة الأعمال وبرامج تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وقد ساعدنا كثيرًا أننا كنا ضمن المشاريع المحتضنة من قبل حاضنة 'ساس'، مما وفر لنا بيئة مشجعة ومساحة لتطوير شغفنا وهوايتنا إلى مشروع متكامل، وقد لعبت ظروف السوق آن ذاك دورًا إيجابيًا أيضًا، وكانت هناك رغبة في الاستعانة بشركات محلية قادرة على تقديم خدمات ذات جودة، مما فتح لنا الباب للعمل في مشاريع نوعية، تركت أثرًا مهمًا وعززت اسم «عكاسة» في السوق حتى ونحن لا نزال على مقاعد الدراسة، هذه المرحلة أعطتنا الثقة بأننا قادرون على المنافسة والاستمرار.
-من بين أعمال الشركة المتنوعة، ما هي الأقرب إلى قلبك؟
أكثر ما يجعلنا نشعر بالرضا هي الأعمال ذات الطابع الثقافي، فهي الأقرب لنا كفريق وتشكل جزءًا من هويتنا التي نحرص على إبرازها في كل ما نقدمه، حتى في المشاريع التجارية البحتة، حيث نحن نرى أن علينا مسؤولية مهنية ووطنية لتعزيز هذا الجانب الثقافي، والإسهام في إثراء المكتبة البصرية والإعلامية في السلطنة، لذلك تجد أن الهوية الثقافية تحضر دائمًا في أعمالنا كقيمة نؤمن بها ونحاول أن نجعلها ملمحًا واضحًا في كل إنتاج نقدمه.
- برأيك، هل تُستغل الثقافة العُمانية اليوم كمورد أو ثروة اقتصادية بالشكل الكافي؟
لا أستطيع أن أقول إنها مستغلة بشكل جيد حتى الآن، فما زال أمامنا مشوار طويل في هذا الجانب، إذا أخذنا قطاع الأفلام كمثال، فهو يُعد الأبرز بين القطاعات الإبداعية، ومع ذلك لم يصل بعد إلى مستوى الحضور الجماهيري أو التجاري الذي يمكن أن يحوله إلى صناعة قائمة بذاتها، الأمر ذاته ينطبق على قطاعات أخرى كالنشر والصحافة، حيث يظل حضورها محصورًا في الإطار الرسمي دون أن تمتد لتصبح جزءًا من المشهد العام بين الناس، وحتى في مجالات مثل المجوهرات والأزياء، ما زال تناولها يقتصر غالبًا على بعدها الحرفي والتراثي، دون أن يجري العمل على تحويلها إلى منتجات ذات قيمة اقتصادية حقيقية قابلة للتصدير والتسويق عالميًا.
العمارة والتصميم الداخلي مثال آخر، فهي تعكس هوية عميقة وثريّة، لكنها بحاجة إلى إعادة قراءة وتوظيف في قوالب حديثة تواكب الذائقة العالمية وتُظهر فرادة المكان والإنسان العُماني. والأمر نفسه ينطبق على المسرح والموسيقى، حيث توجد مادة خام غنية جدًا لكنها تحتاج إلى نبش واستكشاف، ثم قولبتها في إطار إبداعي معاصر يجعل منها موردًا ثقافيًا واقتصاديًا يمكن أن يسهم في التنويع الاقتصادي للسلطنة.
نحن نمتلك الإمكانات والكنوز الثقافية، لكن التحدي الحقيقي يكمن في تحويلها إلى قيمة اقتصادية مضافة، وهذا ما يتطلب تضافر جهود مؤسساتي ومجتمعي أوسع.
-هل لايزال يُنظر لقطاعات الصناعات الإبداعية على أنها مجرد ترف استثماري؟
بالفعل، يعد هذا الأمر واحد من أكبر التحديات التي نواجهها، أتذكر دراسة لشركة PwC تناولت واقع السوق البريطاني، وخلصت إلى أن أول عائق حقيقي أمام نمو الصناعات الإبداعية هو 'التصور الذهني' للقطاع، وهذا التحدي موجود لدينا أيضًا من صناع القرار وصولًا إلى الإنسان البسيط. إذ ينظر الكثيرون إلى الصناعات الإبداعية على أنها مجرد هوايات لملء وقت الفراغ، وليست مسارًا جادًا لبناء وظائف أو دخل اقتصادي حقيقي. بل إن البعض يعتبرها نشاطًا جانبيًا لا يصلح أن يكون مصدر عيش أساسي.
وقد انعكست هذه النظرة كذلك على خيارات الاستثمار، وحتى موقف أولياء الأمور، فإذا أحب أحد الأبناء الرسم أو الفنون مثلًا فإن ذلك يُعامل غالبًا على أنه نشاط ثانوي لا أكثر، الأمر ذاته يتجلى في المدارس حيث تُهمّش حصص الفن عادة مما يرسخ في الأذهان أن هذا المجال ليس جادًا أو قابلًا للبناء عليه.
ومن هنا تبدأ المشكلة، فإذا لم يؤخذ القطاع بجدية منذ المراحل التعليمية الأولى، فسيبقى محصورًا في الهامش، ولعل ما يزيد الصورة تعقيدًا أن مفهوم 'الاقتصاد الإبداعي' نفسه يُعد حديثًا نسبيًا، إذ بدأ يتداول عالميًا في 2007 أو 2008، وما زال في طور التبلور والقولبة.
الدول اليوم تبحث عن أفضل السبل لتسييس هذا المفهوم، وإيجاد آليات لدمجه في السياسات الاقتصادية، على غرار ما حدث مع الاقتصاد الرقمي أو اقتصاد المعرفة، لكن الفارق أن هذه الأخيرة لديها تجارب عالمية مثبتة وقابلة للقياس بينما في الصناعات الإبداعية ما زالت التجارب محدودة خاصة في منطقتنا، وهذا يجعل التحدي أكبر لكنه أيضًا يكشف عن فرصة لم تُستغل بعد.
-برأيك، هل يُعد قطاع الصناعات الإبداعية مجديًا على المستوى الاستثماري والوطني؟
أرى أن على المؤسسات وصناع القرار أن يتعاملوا مع هذا القطاع بجدية أكبر، لأنه قطاع واعد إذا ما تم الاستثمار فيه بالشكل الصحيح، وعلى عكس الكثير من القطاعات الأخرى كالنفظ والغاز التي تتطلب استثمارات بمليارات الريالات، أو الصناعات التحويلية والسياحة التي تحتاج إلى بنى أساسية ضخمة وكلفة عالية للدخول، فإن الصناعات الإبداعية أقل تعقيدًا من حيث متطلبات الانطلاق.
ويمكن - على سبيل المثال - أن يبدأ الاستثمار المبدئي فيه بمبالغ تتراوح بين 200 إلى 300 مليون ريال، وعلى مدى عشر سنوات فقط يمكن لهذا النوع من الاستثمار أن يخلق فارقًا هائلًا في السوق المحلي.
القيمة المضافة الحقيقية للصناعات الإبداعية لا تتجلى فقط في تحريك عجلة السوق الداخلي، وإنما أيضًا في فتح آفاق التصدير لمنتجات وخدمات إبداعية تحمل بصمة محلية وتنافس عالميًا. العوائد هنا ليست رمزية، بل يمكن أن تكون مجزية للغاية إذا ما تم العمل بجدية على تطوير هذه المنظومة، وتهيئة البيئة التي تسمح للمواهب بالإبداع والإنتاج. نحن نتحدث عن قطاع يمتلك القدرة على خلق فرص عمل، وتعزيز التنويع الاقتصادي، وتحقيق حضور للسلطنة في أسواق إبداعية عالمية، وكل ذلك بكلفة أقل بكثير مقارنة بالقطاعات التقليدية الثقيلة.
-إلى أي مدى ما زالت السلطنة تعتمد على استيراد الخدمات الإبداعية من الخارج؟
هناك شح واضح في البيانات الدقيقة، لكن الانطباع العام يشير إلى أن الإنفاق المحلي على الإنتاج المرئي موجود، غير أن الأعمال الكبرى ذات الميزانيات المرتفعة غالبًا ما تُسند إلى شركات أجنبية، هذا الواقع يجعل الحصة الأكبر من القيمة المضافة تتسرب إلى الخارج بينما تبقى السوق المحلية في دائرة الأعمال المتكررة التي لا ترفع مستوى الإنتاج ولا تخلق فرصًا جديدة. نحن بحاجة فعلية إلى توطين هذا القطاع، لأن ذلك كفيل بخلق مهارات مختلفة ورفع معايير العمل بشكل عام.
لنأخذ مثلًا سلسلة 'بيت العجائب' التي نفذتها شركة أوروبية، لقد كان عملًا بمستوى عالمي، لكنه لم يُنتج محليًا رغم أن الكفاءات العُمانية قادرة على تقديم إضافة نوعية، فالعُماني، بحكم معرفته الدقيقة بالبيئة والهوية والخصوصية الثقافية، قد يكون أقدر على إبراز تفاصيل دقيقة تغيب عن الأجنبي، لكن أحيانًا صانع القرار يتخوف من المخاطرة، وهو أمر منطقي في سياقات معينة، فيلجأ إلى خيار خارجي يظنه أكثر أمانًا، غير أن هذا المسار يُفقدنا الخبرة التراكمية التي لا تتشكل إلا بخوض التحديات محليًا، فننتهي إلى الاعتماد على حلول قصيرة المدى بدل بناء صناعة راسخة.
لدينا تجربة قريبة في جناح سلطنة عمان بمعرض 'إكسبو'، حيث كان المشروع في الأصل مسندًا إلى شركة أجنبية، لكن العميل امتلك الجرأة لتمكين شركة محلية من تنفيذه، التحدي كان كبيرًا لأن الشركات الأجنبية غالبًا ما تنظر إلى المنطقة الخليجية بنظرة موحدة لا تميز الخصوصيات الثقافية، بينما كان المطلوب إبراز الهوية العُمانية تحديدًا. النتيجة جاءت مرضية بدرجة عالية، والعمل خرج ضخمًا، متنوع التقنيات، حتى أن إحدى الشخصيات الكورية التي شاهدته علقت بأن المشروع 'عُماني جدًا' في تفاصيله. هذه التجربة منحتنا خبرة عملية تؤهلنا لتولي مشاريع مماثلة وأكبر مستقبلًا، ولو أن هذه الثقافة – ثقافة تمكين الشركات المحلية وقبول فكرة أن هناك تحديات سنتعلم منها – انتشرت على نطاق أوسع، فإن ذلك سيبني سوقًا قوية ويمنحنا القدرة على المنافسة عالميًا.
-حدثنا عن مبادرة «القيمة المحلية الإبداعية» التي تتبناها «عكاسة»، وما الأهداف التي تسعون إلى تحقيقها من خلالها؟
هذه مبادرة داخلية نسعى من خلالها إلى تعميم أثر أي مشروع نقوم به ليشمل أكبر قدر ممكن من المواهب والطاقات المحلية. الفكرة بسيطة: عندما يصلنا مشروع جديد، لا نعمل عليه بمفردنا، بل نستعين بأشخاص آخرين من مختلف التخصصات. بهذا الشكل، لا يقتصر إنفاق العميل على فريق واحد، بل يمتد ليغطي سلسلة أوسع من المبدعين، فتتوسع دائرة المستفيدين. في بعض المشاريع الصغيرة قد يشارك اثنان أو ثلاثة أشخاص، بينما في المشاريع الكبرى يصل العدد إلى ما بين 120 و130 مشاركًا. أذكر أن أحد المشاريع لم تتجاوز مدته ثلاث دقائق، لكنه جمع أكثر من 40 شخصًا عملوا عليه، وهذا بحد ذاته مؤشر على مدى قدرة القطاع على خلق فرص اقتصادية واسعة.
نستلهم في هذا التوجه من بعض التجارب الدولية التي تعتبر أن صناعة الأفلام هي المحرك الرئيسي للصناعات الإبداعية. فالسينما ليست مجرد تصوير وإخراج، بل تحتاج إلى الأزياء والتصميم والعمارة والكتابة والتمثيل والموسيقى، أي أنها قادرة على تحريك سلسلة كاملة من القطاعات الإبداعية. نحن نحاول أن نخلق فرصًا اقتصادية تجعل الشاب أو الموهوب يرى أن هذا القطاع يمكن أن يوفر له مصدر دخل حقيقي، فلا يضطر للبحث عن وظيفة تقليدية ويفقدنا موهبته.
المحور الثاني في المبادرة يتمثل في نقل الخبرات. وهنا نعمل على مسارين: أحيانًا نستعين بخبرات أجنبية، لكننا نحرص أن يكون حولها فريق محلي يتعلم منها مباشرة. قيمة هؤلاء الخبراء ليست فقط في كفاءتهم، بل في أنهم عملوا على إنتاجات ضخمة لا يمكن أن نصل إلى خبرتها التراكمية من خلال التعليم التقليدي أو مقاطع الفيديو. لذلك نعتبر الاستعانة بهم – ضمن ضوابط واضحة – خطوة أساسية للوصول إلى مستوى النضج المطلوب. وفي المقابل، نؤمن أيضًا بأهمية الخبرات المحلية التي تحمل فهمًا عميقًا للثقافة والسياق العماني.
أما المحور الثالث فهو التدريب وصقل المواهب. على سبيل المثال، أطلقنا قبل سنوات برنامج 'أجيال عكاسة'، وهو برنامج استمر أسبوعين للأطفال، أتاح لهم فرصة اكتشاف موهبتهم في الكتابة والتمثيل والإخراج. صنعنا معهم فيلمًا قصيرًا عرضناه في قاعة خاصة بمشاركة أولياء أمورهم، وكانت تجربة ثرية زرعت فيهم الثقة ونشرت الوعي بأهمية هذا القطاع. كذلك نفذنا برنامج 'سليمانيات' في بداية 2020 قبل جائحة كورونا، حيث شارك فيه نحو 200 شخص من مختلف المستويات، مبتدئين ومتوسطين. جهزنا لهم مواقع تصوير ومعدات وإضاءة، وقسمناهم إلى مجموعات كتبت كل منها سيناريو وقدّمته بتمثيل مباشر مع توجيه الفريق، وانتهينا بمجموعة جيدة من الأفلام القصيرة. التجربة كانت بسيطة في إمكانياتها، لكنها قوية في أثرها، وأثبتت أن التدريب العملي هو الطريق الأمثل لاكتشاف المواهب وصقلها.
- إلى أي مدى يرتبط نمو الصناعات الإبداعية بثقافة ووعي المجتمع، خاصة فيما يتعلق بالملكية الفكرية؟
في تقديري، الملكية الفكرية تمثل واحدًا من أهم ممكنات هذا القطاع، بل يمكن القول إنها رأس المال الحقيقي للصناعات الإبداعية، سواء تحولت هذه الأفكار إلى منتج أو إلى خدمة. من دون حماية جادة لحقوق المبدعين، سيبقى القطاع هشًا ومعرضًا للتسرب وفقدان القيمة. ولهذا السبب نجد أن كثيرًا من المستثمرين يترددون في الدخول بقوة في مشاريع إبداعية – سواء كانت فيلمًا أو لعبة إلكترونية أو تطبيقًا أو أي محتوى آخر – لأنهم ببساطة لا يملكون الضمانات الكافية لحماية عوائدهم.
المشكلة لا تقتصر على غياب القوانين، فالقانون موجود ويكفل الحقوق، لكن الإجراءات غالبًا ما تكون طويلة ومعقدة، مما يدفع صاحب الحق إلى التنازل عن متابعة قضيته. بل إننا نرى أحيانًا أن بعض المؤسسات الرسمية نفسها قد تستخدم صورًا أو مقاطع منتَجة من قبل أحد الفنانين من دون استئذانه أو تعويضه، وهو ما يبعث برسالة سلبية للمجتمع ككل.
إلى جانب ذلك، هناك ثقافة عامة بحاجة إلى إعادة تشكيل، خصوصًا مع انتشار مواقع تحميل الأفلام والمحتوى مجانًا، مما يخلق انطباعًا بأن هذه الأعمال ليست لها قيمة اقتصادية حقيقية. لذلك، المسألة ليست تشريعية فقط، بل أيضًا ثقافية ورقابية. نحن بحاجة إلى أنظمة قانونية أكثر صرامة وسرعة، تجعل من السهل على صاحب الملكية الفكرية أن يسترد حقه أو يحمي فكرته، وبالموازاة مع ذلك نحتاج إلى وعي مجتمعي يرسخ احترام حقوق المبدعين ويعتبرها جزءًا من مسؤولية عامة. إذا لم يتحقق هذا التوازن بين القانون والثقافة، سيبقى القطاع مهددًا، ولن يتمكن من جذب استثمارات مستدامة تضمن له النمو.
-شاركتم في المختبرات والورش المصاحبة لإعداد خارطة الصناعات الإبداعية التابعة لرؤية عمان 2040، كيف تقيمون هذه التجربة وما الذي يمكن أن تضيفه للقطاع؟
نعم، شاركت في إحدى حلقات العمل التي ركزت على قطاع الأفلام تحديدًا، وأعتقد أن خارطة الصناعات الإبداعية تُعد من أوائل المشاريع التي درست عن قرب واقعنا المحلي في هذا المجال. الخطوة الأهم في رأيي أن الخارطة ساعدت على تحديد موقعنا الحالي وكشف ملامح القطاع بوضوح. نحن ما زلنا نفتقر إلى بيانات دقيقة: كم يبلغ حجم السوق فعلًا؟ ما حجم الإنفاق المحلي؟ ما طبيعة الفرص المتاحة؟ كم عدد العُمانيين العاملين في هذا القطاع وما هي مستويات دخولهم؟ هذه التفاصيل تحتاج إلى دراسات معمقة وأرقام واضحة، لأنها ستكون الأساس الذي يبني عليه صانع القرار والمشرّع استراتيجيات ناجعة وبرامج تنفيذية فعالة.
الخارطة في تقديري خطوة أولى موفقة، لأنها وضعتنا أمام صورة أقرب إلى الواقع، لكن الطريق ما زال طويلًا ويحتاج إلى جهد أكبر. أرى أن واحدة من الإشكاليات أن بعض الجهات تنظر إلى القطاع الإبداعي باعتباره معقدًا، بينما في الحقيقة يمكن تبسيط التعامل معه بالتركيز على قطاع مثل الأفلام، لأنه قطاع قادر على تحريك سلسلة واسعة من الصناعات الأخرى إذا ما مُكِّن بصورة صحيحة. إذا ركزنا على وضع التشريعات، وتطوير التدريب والابتعاث، وتوفير أدوات الاستثمار، فإن ذلك سيخلق أثرًا يمتد إلى الإعلام، والسياحة، والفنون، والتقنيات الرقمية، وغيرها من القطاعات.
من المقترحات التي خرجت بها ورشة الخارطة ضرورة وجود مؤسسة أو لجنة أو هيئة متخصصة تُعنى باستقطاب الإنتاجات الدولية. هذا ليس أمرًا نظريًا، بل له تجارب ناجحة؛ على سبيل المثال، في إحدى جلسات منتدى الاقتصاد العالمي، عُرضت تجربة المملكة الأردنية الهاشمية التي استطاعت خلال عشر سنوات أن تتحول إلى واحدة من أبرز الدول العربية في استقطاب الإنتاجات السينمائية العالمية، ونتيجة لذلك خُلق أكثر من 95 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة في هذا القطاع، بمستويات احترافية جيدة ودخول مناسبة.
الفوائد لا تقف عند الوظائف فحسب، بل تمتد إلى تحريك الاقتصاد المحلي. عندما يأتي فريق إنتاج عالمي بعدد مئات الأشخاص، فإنهم ينفقون في البلد: استئجار مواقع، استخدام وسائل النقل، الإقامة في الفنادق، الاستعانة بفرق محلية لتقديم خدمات الطعام، وغيرها. أذكر تجربة لنا في قرية السوجرة، حيث وفرنا إقامة لفريق كامل وتعاقدنا مع أهالٍ محليين لتجهيز الوجبات، فكان الأثر الاقتصادي ملموسًا بشكل مباشر.
لكن حتى ننجح في الاستقطاب، نحن بحاجة إلى حوافز واضحة وسهولة في الإجراءات. مثلًا، لو أنفق المنتج مليون ريال في السلطنة، يجب أن تكون هناك آلية لإرجاع نسبة من هذا المبلغ كتشجيع، كأن يحصل على 30% من الإنفاق كحافز. إلى جانب ذلك، يجب أن تكون هناك مؤسسة معنية بالتسويق والمشاركة في المهرجانات والمحافل الدولية للتعريف بالسلطنة كموقع جاهز للتصوير والإنتاج. لدينا ميزة تنافسية قوية لا تتوفر في الكثير من الدول، وهي التنوع الجغرافي الهائل في مساحة مضغوطة: خلال ثلاث ساعات بالسيارة من مسقط يمكن أن تصل إلى البحر والجبل والصحراء والواحات والقرى، وهذه ميزة حاسمة للمخرجين والمنتجين الذين يفكرون دائمًا في الجوانب اللوجستية.
الشق الآخر مهم أيضًا وهو المعرفة ونقل الخبرات. عندما تأتي فرق إنتاج أجنبية إلى السلطنة، فإن الفرق العمانية تحتك بها مباشرة، ومع تراكم التجارب يتراجع الاعتماد على الأجنبي تدريجيًا ويكبر دور العُمانيين. هذا الاحتكاك العملي هو الذي يصنع مهارات جديدة ويُخرج مواهب محلية مؤهلة تنافس في المستقبل.