العرب والعالم

خيام على أطراف الوجع: الغزيون يواجهون المجهول

 

بعد إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي بتوسيع العملية في مدينة غزة من خلال هدم المباني متعددة الطوابق.
في غزة، لا شيء يشبه الأمس، البيوت تتحول إلى ركام، والشوارع تغدو طرقًا للنزوح، والحقائب الصغيرة تحمل ما تبقّى من حياة كاملة، كل رحلة نزوح تبدأ بخوف، وتنتهي بخيمة لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، في هذه البقعة المحاصرة، يختلط الحلم بالوجع، والأمل بالخذلان، فيما الملايين يبحثون عن مكانٍ يضمن لهم مجرد البقاء على قيد الحياة.
سيارات وعربات محمّلة بما تبقى من أثاث تتجه نحو جنوب القطاع هروبًا من الموت إلى المجهول، فيما الناس مرهقون من كثرة التحديات اليومية.
لقد أدت أوامر الإخلاء التي فرضتها إسرائيل على سكان قطاع غزة منذ بدء الحرب إلى تهجير تسعة من كل عشرة أشخاص، معظمهم نزحوا أكثر من مرة، وبعضهم أكثر من عشر مرات. ووفق ورقة حقائق صادرة عن مركز مسلك فإن 1.9 مليون فلسطيني لا يزالون يعيشون في ظروف إنسانية كارثية بلا يقين بشأن المستقبل.
منظمات أممية وحقوقية أكدت أنّ الجيش الإسرائيلي فرض أوامر إخلاء على 86% من مساحة قطاع غزة، ما جعل معظم المناطق غير صالحة للحياة، وفي ذروة هذه الموجة، يستعد سكان مدينة غزة لإخلاء مساكنهم وخيامهم والنزوح جنوبًا على ضوء تهديدات باحتلال المدينة.
الأرملة أم يوسف سلمي (50 عامًا) جلست أمام خيمتها المتآكلة في حي الرمال بعدما اضطرت لترك منزلها المستأجر، قالت: 'كنت أظن أنّ مدخراتي ستكفيني، لكن اليوم لا مدخرات ولا راتب. كل يوم يمر اختبار جديد، ولا أعلم من أين أؤمّن مصاريف الغد، لقد استنزفت نقودي في شراء الطعام لأطفالي أثناء المجاعة، لم أتخيّل أن تستمر الحرب إلى هذا الحد. أفكر الآن في كيفية النزوح إلى جنوب قطاع غزة في حال طلب منا جيش الاحتلال الإخلاء، تكاليف النقل باهظة ولا أرض فارغة لنصب خيمتي، أخشي على أطفالي من الأيام القادمة'.
المزارع عبدالحليم سالم (65 عامًا) وصف خسارته لبيته وأرضه شرق غزة بالكارثة: 'لم أهجر بيتي فقط، بل هجرت أرضي الزراعية التي كانت جنة الله على الأرض مليئة بالخضراوات وأشجار الحمضيات واللوزيات والزيتون. كان يعمل فيها أكثر من عشرين عاملًا، الآن تحولت إلى صحراء قاحلة بعد تجريفها من قبل الاحتلال، هدمت بيوتنا وهُجرنا منها، لقد تحولنا إلى مجرد أرقام في قوائم النازحين، نبحث عن الخبز والماء، وكأنَّ هويتنا قد محيت مع بيوتنا ومزارعنا'.
حال الأم سلمى بكر (44 عامًا) لم يكن أفضل فقد تحدّثت عن نزوحها المتكرر بوجع شديد: 'أن تنزح مرة يعني أن تخاف. أن تنزح عشر مرات يعني أن الخوف يصبح هويتك.
كل رحلة نزوح جديدة هي معادلة مستحيلة مليئة بالأسئلة: ماذا نأخذ من طعام وأثاث؟ كيف نحمي أطفالنا من القصف والبرد والمرض؟ النزوح يعني أن تنجو بأطفالك اليوم، لكنك لا تعرف إن كنت ستتمكن من إطعامهم غدًا، يعني أن تفقد الشعور بالأمان إلى الأبد'.
أما الطالبة ندى أحمد (18 عامًا)، شابة فقدت حلمها في إتمام الثانوية العامة: 'كنت أدرس التوجيهي في غزة. كنت أحلم أن أنهي عامي الدراسي وأنتقل إلى الحياة الجامعية. الآن انقلبت حياتي رأسًا على عقب، هُدمت مدارسنا، وتحول حلمي إلى نزوح من مكان إلى آخر، قضيت عامي الماضي من خيمة إلى أخرى أصارع من أجل البقاء فقط، بدلًا من التفكير في ما أريد أن أصبح عليه. لقد سرقوا مني الماضي، والآن يسرقون مستقبلي أيضًا بمنعي من مواصلة حياتي حتى وإن كان بين الركام'.
إلى ذلك، وصفت الطبيبة سندس ماضي (32 عامًا) المأساة من موقعها المهني والإنساني قائلة :'أشعرت أنني وصلت إلى درجة الإنهاك، نزوح متكرر يشبه الجرح المفتوح، ويصعب أن يتخيل الشخص نفسه وكأنَّه رحال بالإكراه. وأضافت: النزوح أصبح السبب الأساسي فيه هو انتشار الأمراض، الازدحام، نقص المياه النظيفة، سوء التغذية، انهيار النظام الصحي، وازدياد الأمراض المزمنة بين كبار السن مشيرة إلى أن النزوح يعني أنني كطبيبة أعالج أمراضًا كان يمكن منعها لو أن الناس يعيشون في بيوتهم بكرامة. إنه قرار سياسي يتحول إلى كارثة صحية وإنسانية، والثمن يدفعه المدنيون الذين يموتون أمام صمت العالم الذي يدعي الإنسانية'.
وفي إحصائية صادرة عن مكتب الإعلام الحكومي في غزة بينت بالأرقام أبعاد النزوح على المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة جاء فيها: 1.9 مليون نازح داخليًا، ما يعادل نحو 85% من سكان غزة (الأمم المتحدة).
280 ألف وحدة سكنية تضررت كليًا أو جزئيًا، منها 170 ألف مدمرة بالكامل (وزارة الأشغال العامة)، وأكدت الإحصائيات أن 80 ألف منزل غير صالح للسكن، و625 ألف طالب حُرموا من التعليم بسبب تدمير المدارس أو تحويلها إلى ملاجئ (الأونروا).
كما أن 70% من المستشفيات وعيادات الرعاية الأولية خارج الخدمة (منظمة الصحة العالمية)، إضافة إلى ذلك فإن معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال دون سن الخامسة بلغت 15%، فيما يعاني الآلاف من الهزال ونقص الوزن (اليونيسف).
من جهة أخرى، أكد المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة: 'إن الاحتلال يخطط لإجبار مليون ونصف مليون من سكان مدينة غزة والشمال على النزوح إلى وسط وجنوب القطاع، كما دمّر أكثر من 85% من منازل المواطنين والبنى التحتية في الشجاعية والتفاح فيما أجبر السكان على العيش في منطقة لا تتجاوز 12% من مساحة القطاع'.
من جهة أخرى، قال المستشار الإعلامي لوكالة الأونروا: 'لا أماكن يلجأ إليها سكان مدينة غزة، والانهيار شبه كامل للعمل الإنساني مع تضييق المساحات المخصصة له'.
بينما شدّد مدير الإغاثة الطبية بغزة على أن 'خروج سكان مدينة غزة باتجاه الجنوب ستكون له تداعيات كارثية'.
أزمة مركبة بلا حلول الخيام اليوم تتكدس في الشوارع، على شاطئ البحر، وبين الركام. ومع استمرار المجاعة وارتفاع الأسعار، تبقى المساعدات الدولية محدودة وغير كافية لسد احتياجات مئات الآلاف من النازحين.
هكذا، تعيش غزة تحت ثقل الحرب والدمار والغلاء، فيما يظل أهلها عالقين في واقع خانق بلا حلول، بين جدران مفقودة وأسقف غائبة، وحلمٍ مؤجل بالعودة إلى حياة طبيعية.
ويبقى السؤال: إلى متى سيبقى الغزيون عالقين بين الخوف والجوع، بلا بيت يأويهم ولا وطن يحتضنهم؟