الاقتصادية

تداخل الصيد التجاري مع الصيد التقليدي يهدد التوازن البيئي البحري واستدامة الموارد

"الأمن والسلامة" يحد من التجاوزات.. وامتداده إلى الأعماق يقوي فاعلية الضبط

 


بينما تتجه الأنظار إلى تعزيز الأمن الغذائي وتنمية الاقتصاد الأزرق، يشهد قطاع الصيد التجاري في سلطنة عُمان توسعا ملحوظا، وبات المشهد البحري اليوم ساحة لمعادلة معقدة، طرفاها وفرة الإنتاج من جهة، ومخاطر التنافس غير المتكافئ، والاستنزاف البيئي من جهة أخرى.
وحذر معنيون بقطاع الصيد في لقاء مع 'عمان' من التأثيرات البيئية والاقتصادية الناتجة عن تداخل الصيد التجاري مع الصيد التقليدي، مؤكدين أن استخدام معدات صيد مدمرة كالشباك القاعية يتسبب في استنزاف الثروة السمكية وتهديد التوازن البيئي البحري، وأشاروا إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه الصياد المحلي غياب التمييز في آليات الترخيص والدعم بين الصياد المتفرغ وغير المتفرغ، بالإضافة إلى ندرة الطُعم الطبيعي مثل السردين نتيجة الاستغلال التجاري المفرط، كما لفتوا إلى ضعف منظومة التسويق، وغياب التمثيل الحقيقي للصيادين في اللجان المعنية بصياغة القوانين والتشريعات المرتبطة بالقطاع.
ومن جانب آخر، أشادوا بالدور الفاعل لوحدة الأمن والسلامة البحرية التي نجحت في الحد من أنشطة الصيد غير القانوني وضبط الأيدي العاملة غير المصرح لها، مما وفر حماية أولية للثروة السمكية وأعاد نوعا من التوازن إلى سوق العمل البحري.
ودعوا إلى ضرورة إعادة تنظيم مواقع الصيد التجاري، وتشديد الرقابة على الشركات الكبرى، وضمان ضخ جزء من الإنتاج في السوق المحلي، مع تمكين جمعية الصيادين لتكون جهة فاعلة في صياغة السياسات وتنفيذها بما يضمن حماية الثروة البحرية وتحقيق التوازن بين الأنشطة التجارية والحرفية.
'التوازن الطبيعي'
قال أحمد بن عبد الله البلوشي الممثل الإقليمي للمنظمة العالمية لصيد الأسماك IGFA رئيس مجلس إدارة الجمعية العُمانية للصيادين: إن مع التوسع المتسارع في نشاط الصيد ووجود الصيد التجاري في نفس المواقع التي يمارس فيها الصياد الحرفي نشاطه أثر سلبًا وبشكل مباشر على مهنة الصيد التقليدية، موضحا أن هذه الممارسة تمثل نوعا من الصيد الجائر نظرًا لأنها تستهدف أنواعا بحرية تُعد عناصر غذائية رئيسية في النظام البيئي البحري، مما أدى إلى الإخلال بالتوازن الطبيعي وتراجع كبير في تكاثر الأسماك واستدامتها.
ولفت إلى أن الفارق الكبير بين إمكانيات الصياد الحرفي المحدودة من حيث المعدات والشباك مقارنة بالتقنيات المتقدمة والطول الكبير لشباك الصيد التجاري، تسبب في منافسة غير متكافئة أضرت بوفرة الأسماك ومصادر رزق الصيادين التقليديين، مؤكدا أن هذه المزاحمة باتت تمثل تهديدا حقيقيا لمستقبل المهنة وللاستقرار المعيشي للصيادين المحليين.
وأوضح البلوشي أن أبرز العقبات التي تواجه الصياد الحرفي اليوم تتلخص في عدة محاور أولها التحديات الناتجة عن توسع الأيدي العاملة الوافدة سابقا التي مارست الصيد بطريقة استنزافية للأسماك، مشيرا إلى أن وضع الأمن والسلامة في المرحلة الأخيرة للمراقبة ساعد على الحد من هذه الممارسات غير المنظمة، مما يُعد خطوة إيجابية نحو تنظيم القطاع، إلى جانب ذلك أن ضعف الدعم الحكومي يعد أحد التحديات، موضحا أن الدعم المتوفر حاليا يعد محدودا جدا وغير كاف، كما أن آلية التراخيص الحالية لا تميز بين الصياد المتفرغ وغير المتفرغ، وهو ما يخلق فجوة كبيرة في العدالة الاجتماعية والاقتصادية بين فئات الصيادين، مشددا على ضرورة إعادة هيكلة نظام التراخيص بحيث يمنح الصياد المتفرغ دعما أكبر يشمل التسهيلات البنكية والدعم اللوجستي، إضافة إلى الحماية الاجتماعية وتوفير الوقود، داعيا إلى أن يكون هناك تفنيد واضح من قبل وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه بين الفئات، وأن يسجل الصياد المتفرغ رسميا ليحصل على امتيازات تعزز استقراره المهني والمعيشي.
كما أشار إلى أن من بين أبرز التحديات الحالية كذلك ما يتعلق بندرة 'الطُعم' اللازم للصيد، وتحديدا أسماك السردين، موضحا أن السبب الرئيسي في هذه الندرة هو الاستنزاف الكبير الناتج عن سفن الصيد التجاري، لاسيما تلك الحاصلة على تصاريح 'تحويط' والتي تستخرج كميات كبيرة من السردين ليتم تحويلها إلى مسحوق سمكي أو أعلاف أو زيوت، دون تحقيق أي قيمة مضافة فعلية للصياد أو للسوق المحلي، بل بالعكس، تؤدي هذه الممارسات إلى حرمان الصياد الحرفي من وسيلته الأساسية في الصيد، وبالتالي تعريض الأمن الغذائي المحلي للخطر.
' تمكين التنظيم '
وقال رئيس مجلس إدارة الجمعية العُمانية للصيادين عن تحقيق التوازن بين الحفاظ على البحر وضمان استمرارية رزق الصيادين: إن أحد أهم الإشكالات يتمثل في طريقة سنّ القوانين والتشريعات المرتبطة بالقطاع، موضحا أن لجان 'سنن البحر' الحالية لا تنتخب من قبل الصيادين ولا تعكس بالضرورة واقعهم الميداني، بل يعين فيها أشخاص قد لا يملكون الدراية الكافية بطبيعة المهنة، ودعا إلى ضرورة أن تكون هذه اللجان منتخبة من الصيادين أنفسهم، لضمان تمثيل حقيقي يُفضي إلى قرارات مدروسة ومتفقة مع احتياجات الصيادين، كما أشار إلى أهمية إعادة النظر في مواقع الصيد التجاري، بحيث يتم إبعاده عن مناطق الصيد الحرفي دون المطالبة بإيقافه كليا، بل تنظيمه جغرافيا بما يحفظ حقوق الجميع. وأضاف أن من الضروري إعادة هيكلة بعض التشريعات، وعلى رأسها تنظيم أوقات الحظر والمنع بالتعاون مع جمعية الصيادين بما يكفل حماية المخزون البحري دون المساس بمصالح الصيادين، كما دعا إلى تشجيع الصيادين من شمال سلطنة عُمان على العمل في سواحل الجنوب والوسطى بشرط وجود تنظيم واضح يضمن احترام خصوصية المناطق ويحافظ على استدامة الموروث البحري.
وأكد على أن جمعية الصيادين تلعب دورا محوريا في دعم الصيادين والدفاع عن حقوقهم، مشيرا إلى أهمية تمكينها لتكون المنصة الرسمية والذراع التنفيذي المعترف به من قبل الوزارة والجهات المعنية، بحيث تمثّل الصيادين في صياغة التشريعات والتفاوض بشأن الحقوق، وتسهيل حصولهم على المميزات والاستحقاقات، لافتا إلى أن الجمعية تسعى باستمرار لحلحلة التحديات القائمة، وتقود جهودا حقيقية لضمان مستقبل آمن ومستقر للصياد الحرفي، متمنيا أن تجد هذه الجهود استجابة عملية تسهم في رفع مستوى معيشة الصيادين وتدعم استدامة المهنة على المدى الطويل.
'التحويط بالحلق'
من جهته، قال سلمان بن حمد بن خميس الفارسي عضو المجلس البلدي ممثل ولاية مصيرة: إن القوانين المنظمة لقطاع الثروة السمكية حددت نطاقات واضحة لأنشطة الصيد، ففي محافظة جنوب الشرقية يبدأ الصيد الحرفي من 7 أميال بحرية، ويخصص ما بعد 12 ميلاً للصيد الساحلي، أما الصيد التجاري فكان يمارس من 20 ميلا، لكن تقلص هذا الحد إلى 16 ميلا، مما أحدث تقاربا غير صحي بين أنشطة الصيد المختلفة.
وأشار إلى أن 'التحويط بالحلق' يُعد من أبرز التحديات التي تهدد البيئة البحرية، لما يسببه من استنزاف للمخزون السمكي نتيجة صيد كميات كبيرة من الأسماك غير المستهدفة، مما يخل بالتوازن البيئي ويؤثر سلبًا على الصيادين الحرفيين.
وأكد أن هناك حالات متكررة رصدت لتعدي بعض سفن التحويط على المسافات المخصصة للصيد القوارب، ووصلت إلى مسافات لا تتجاوز 2 – 3 أميال بحرية، ما يعد انتهاكا صريحا للقانون، وسجلت تجاوزات بالقرب من ولاية مصيرة وغربها التي تعد منطقة يحظر فيها الصيد وفق القانون، فضلا عن أن سفن التحويط باتت تستهدف الأسماك السطحية الصغيرة وأسماك القاع، ما أدى إلى تراجع كبير في المصيد اليومي للصيادين الحرفيين.
كما أشار إلى أن هناك توثيقا لحالات نفوق وتضرر حيتان وسلاحف بحرية نتيجة استخدام شباك غير ملائمة من سفن الصيد التجاري، فضلا عن سحب الشباك على أعماق متوسطة تؤدي إلى تدمير أجزاء من الشعاب المرجانية.
ودعا إلى تعزيز القطاع وإيجاد فرص عمل واسعة للشباب العُماني في المحافظات الساحلية، وذلك من خلال تطوير سلسلة مترابطة تتمثل في الصيد والنقل والمعالجة والتسويق، وأكد على أهمية تمكين إدارات المحافظات بالتعاون مع الجهات المختصة في تنظيم قطاع الصيد، وإيجاد حلول محلية مرنة تتناسب مع الخصوصية البيئية والاجتماعية لكل ولاية ساحلية، مشيرا إلى أن تفعيل مؤسسة الأمن والسلامة البحرية ساعدت في ردع المخالفات وحماية البيئة البحرية واستدامة المصايد، كما شدد على أهمية دور الأمن والسلامة في تعزيز عمليات المراقبة ليس فقط على الساحل إنما امتدادها إلى الأعماق البحرية بهدف الحد من نشاط السفن والقوارب غير المصرح لها، كما طالب بتكثيف الرقابة على السفن في ولاية مصيرة لضمان استدامة الثروة السمكية، ودعم الصيادين، وتقليل المنافسة غير العادلة.
'مصانع الهرس'
من جانبه قال الصياد خليل بن جمعة الفوري: إن وفرة الأسماك والصيد اليومي يشهان تراجعا ملحوظا من عام إلى آخر سواء في بحر العرب أو بحر عُمان، مشيرا إلى أن هذا الانخفاض أصبح مقلقا للصيادين الحرفيين الذين يعتمدون على هذه المهنة كمصدر رزق أساسي.
وأوضح أن من أبرز التحديات التي تواجه الصيادين حاليا هو التوسع الكبير في أنشطة الصيد التجاري، الذي بات ينافس الصياد الحرفي في بيئته الطبيعية، إلى جانب مصانع هرس السردين، التي تستنزف كميات كبيرة من هذا النوع من الأسماك، سواء الحجم الكبير أو الصغير.
وأشار الفوري إلى أن إجراءات الأمن والسلامة ساهمت في الحد من انتشار الأيدي العاملة الوافدة الذي يعد أمرا إيجابيا، لكنه في الوقت ذاته يحتاج الصياد لفترة قصيرة لتوفير أيدٍ عاملة مساندة لاستمرار عمله بكفاءة.
كما أشار إلى وجود بعض التحديات في جانب التسويق، خاصة خلال فصل الشتاء، إذ إن تسويق كميات كبيرة من الأسماك –مثل نصف طن– قد يستغرق وقتا طويلا، ما قد يدفع الصياد لبيعها بسعر منخفض خوفا من تلفها، نظرا لغياب جهة منظمة تتولى التسويق بشكل فعّال. ورغم وجود بعض مصانع التجميد، إلا أنها محدودة العدد وتملك قوارب صيد خاصة.
ودعا الفوري الجهات المعنية إلى مراقبة نشاط الشركات الكبيرة وتشديد الرقابة عليها، مع فرض آلية تلزمها بطرح نسبة لا تقل عن 2% من إنتاجها في السوق المحلي، دعما للصيادين والمستهلكين في آنٍ واحد، ولضمان التوازن بين التصدير والطلب المحلي، إلى جانب وضع جهة معينة تتبنى تسويق الأسماك من الصيادين مباشرة.
'جهود مقدرة'
من جانبه أشاد الصياد علي الحكماني من ولاية محوت بدور وحدة الأمن والسلامة في جميع ولايات ومحافظات الوسطى، مؤكدا أن جهودهم ساهمت في وقف الأيدي العاملة غير المصرح لها من ممارسة الصيد غير القانوني، علما أنها كانت تنافس الصياد العُماني وتحد من قدرته على العمل في المهنة، وأشار إلى أن أغلب الشباب العُماني في المحافظة يعملون في الصيد، وبفضل هذه الجهود تحسن الوضع بشكل ملحوظ، داعيا تثبيت نقطة دائمة لوحدة الأمن والسلامة في المحافظة لضمان استمرار مراقبة المخالفين وتطبيق القوانين، كما أن الرقابة أسهمت في استدامة الثروة السمكية وطمأنينة الصياد.
إحصاءات
وكشفت الإحصائيات عن تقلبات واضحة في كميات الأسماك المنزلة في سلطنة عُمان خلال النصف الأول من عام 2025، حيث أشارت بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى أن إجمالي كميات الأسماك المنزلة بالصيد الحرفي بنهاية النصف الأول من 2025 نحو 339.8 ألف طن مسجلا انخفاضا بنسبة 2.9% مقارنة بـ350 ألف طن في الفترة ذاتها من 2024، في حين شهد الصيد التجاري نموا بنسبة 111% ليصل إلى 78.8 ألف طن مقابل 37.3 ألف طن للفترة نفسها من 2024، وقفز صيد الأسماك الساحلي بنسبة 554.1% ليبلغ 29.9 ألف طن مقابل 4.5 ألف طن للفترة ذاتها من 2024، وتظهر هذه التقلبات في كميات الصيد تساؤلات مهمة حول مستقبل استدامة الثروة السمكية خصوصا مع تزايد الصيد التجاري والتحدي في تحقيق التوازن بين تنمية الاقتصاد وحماية البيئة البحرية، وضمان حقوق ومعيشة الصيادين الحرفيين.