ثقافة

«هوامش المقريزي» بين الأدب والتاريخ

 

إيهاب الملاح-

(1)

من الكتب والأعمال بفضل اختياراتها وصياغاتها وجمال وعذوبة وقعها على النفس والروح ما يجعلنا نعاود مطالعتها والإقبال على قراءتها كل فترة من الزمن؛ إما تخففا من أعباء وأثقال ومهام لا تنتهي، وإما للانشغال بالموضوع الذي عالجته هذه النوعية من الكتب، فضلًا على المتعة المتجددة المتحصلة من هذه المعاودة..

وفي ثقافتنا العربية خلال القرن ونصف القرن الفائتة، لدينا الكثير من الكتب والمؤلفات والأسماء التي نحب معاودة الاطلاع عليها وتجديد لذة قراءتها والانتفاع بها بل والخروج منها بأفكار وتعليقات واشتباكات فكرية خصبة وملهمة وقيمة..

وصلاح عيسى عندي ينتمي إلى هذه الطائفة من الكتاب والمؤلفين الذين أحب أن أعاود الاطلاع على كتبهم وأعيد قراءتها مرارا، ومراجعة أعمالهم المرجعية والعذبة في الآن ذاته..

صلاح عيسى من أهم الكتاب والصحفيين العرب، والمؤرخين المصريين «من غير الأكاديميين»، المنضوين تحت لواء مدرسة التاريخ الاجتماعي، وله في هذا المضمار من الكتب والدراسات ما يشهد بأنه من القلائل الذين ثابروا وفتشوا ونقبوا عن تفاصيل ووقائع وأحداث وشخصيات من التاريخ المصري الحديث والمعاصر، ليخرج لنا سلسلة كتبه الشهيرة بعنوان جامع «حكايات من دفتر الوطن»؛ وهي لا غنى عنها للقارئ المعاصر، المتخصص، وغير المتخصص على السواء، منها كتابه الضخم عن «الثورة العرابية»، و«رجال ريا وسكينة»، و«مثقفون وعسكر»، و«رجال مرج دابق»، و«البرنسيسة والأفندي»، و«تباريح جريح»، و«شخصيات لها العجب».. وغيرها، بالإضافة إلى كتاباته في الشأن السياسي، ومتابعاته التي لم تكن تخلو أبدا من «مشاغبات»..

وهذه المجموعة البديعة من الحكايات التي أطلق عليها «هوامش المقريزي» لم أكن قرأتها في طبعاتها الأولى من قبل؛ وإن كنت الآن أعاود قراءتها في طبعتها الأنيقة الرائعة الصادرة قبل سنوات قليلة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، وبغلاف للمبدع كريم آدم.

(2)

قرأت الكثير من كتب صلاح عيسى ومقالاته، واستمتعت بها وما زلت أنظر بإكبار وتقدير إلى كل ما خطه صلاح عيسى بجرأته المحببة وأسلوبه «الرشيق» الذي لا يُبارى؛ رحمه الله كان من القلائل الذين استوقفتني طريقة صياغتهم لمعارفهم الإنسانية والصحفية والتاريخية.. بالتأكيد كان صاحب أسلوب حقيقي وقدرة فذة على النبش والتنقيب في كتب التواريخ والحوليات، والغوص ببراعة لا تُبارى فيما أسميه «الأرشيف الحي للمصريين»؛

من قلب السجلات الرسمية، ومحاضر الشرطة، وتقارير المسح الاجتماعي صاغ صلاح عيسى «حكايات من دفتر الوطن»، ودوَّن «هوامش المقريزي» وأضاء مساحاتٍ من التاريخ الاجتماعي والثقافي والسياسي للمصريين والعرب غاية في القيمة والجمال معًا!

ويعنيني هنا أن أتوقف قليلًا عند نقطتين بالغتي الأهمية ظهرا لي وأنا أعيد قراءة «هوامش المقريزي» مرة أخرى؛

الأولى تتعلق بالكلمتين التي يكونان العنوان «الهوامش» و«المقريزي»؛ وهما كلمتان مفتاحيتان في كل كتابة ومشروع صلاح عيسى الصحفي والتاريخي؛ فمن بداياته وصلاح عيسى منحاز للطبقات الفقيرة و«المهمشة» ويدرك تمامًا أن التاريخ الحقيقي والحق هو تاريخ الشعوب وليس تاريخ الحكام والقادة والسياسيين،

وأما «المقريزي» وهو اسم أشهر مؤرخ مصري في العصور الوسطى؛ فهو القناع الرمزي أو الاسم الأيقوني الذي حقق لصلاح عيسى تأطير المساحة أو الشكل الذي سيصوغ به وعليه هوامشه التاريخية، ويسطر أيضًا بإيماءتها ورمزية اختياراتها مواقفه وقناعاته الوطنية والإنسانية.

أما النقطة الثانية فتتصل بالمنهج الذي حدد معالمه وصاغ أركانه صلاح عيسى في كتاباته عموما وفي ذلك المسار الذي اختطه وأصبح علما عليه ورائدا له، وأتصور أن هذا المنهج في الكتابة المباشرة (من خلال الصحافة والميديا الحديثة) ما زال صالحا للاحتذاء بل والتطوير في كل بلد عربي وبما يتناسب مع تاريخه الاجتماعي والثقافي، وعلى هذا فمن الممكن أن يكون هناك هوامش عمانية وهوامش خليجية وهوامش عراقية وهوامش مغربية.. إلخ، يضطلع بها ابن هذا البلد أو ذاك، يبحث أو ينقب أو يفتش في ثنايا التاريخ الحي والسجل الممتد في حياة البشر والناس، ويستخرج منها الحكايات والحكايا، المهم أن تكون مصاغة بالطريقة التي تحقق بها غرضها، وهنا نصل إلى مربط الفرس في عنوان هذا المقال (بين الأدب والتاريخ): فكيف يتم ذلك؟

(3)

هذا ما يجيبنا عنه صلاح عيسى نفسه في واحد من الحوارات التي أضاء فيها ما حول كتابته وما وراء كتاباته؛ وهو مهم بل شديد الأهمية في جلاء الكيفية أو الطريقة أو المنهج الذي اتبعه في إخراج هذه السلسلة من الكتب ذائعة الصيت والتي ما زالت تحظى الإقبال والمقروئية منذ صدورها الأول وحتى وقتنا هذا؛ يقول صلاح عيسى:

الفكرة الأساسية أنني كنت شغوفًا بالصحافة في التواصل مع مساحة أكبر من القراءة كنت أريد من مشروع «حكايات من دفتر الوطن»، أن يأخذ ظاهرة تبدو هامشية تمامًا، لكن هي في نفسها تتركز فيها قوانين حركة التاريخ لتلك المرحلة.

ووضعت تخطيطًا لهذه المشروعات وقلت إنني سأعتمد على الدراما الطبيعية في حوادث التاريخ، وأعيد تخليقها في أسلوب أدبي يعتمد على الحكاية والتشويق. فتحولت بعض الفصول إلى كتب ضخمة كانت تلتقط ظاهرة هامشية، قد تكون «قصة حب» أو «جريمة» أو «محاكمة قضائية» بتهمة الاتجار بالرقيق بعد إلغاء الرقيق في مصر إلخ، فأكتب هذه الفصول.

كل ما كان في ذهني وقتها هو رؤية تحررية تتضمن انحيازًا كاملاً للحرية والديمقراطية، أكتشف هذه الأشياء الآن، ربما لم تكن واضحة في وقتها بالشكل الكافي.

الجانب الآخر أن يكون بها قدر من الجاذبية من ناحية العمل، وهو عمل أكاديمي تمامًا يعتمد على الدراما الطبيعية في التاريخ، وليس فيه حرف واحد أو جملة حوار لم ترد في مرجع أساسي.

(4)

وهكذا ووفق هذه الرؤية الناصعة وهذا المنهج المحدد الدقيق؛ بدأ صلاح عيسى يقدم رحلة إبحاره الواعية وهو الملاح التاريخي الماهر في ذاكرة الوطن والناس، وفي أضابير الحوليات والسجلات والصحف والمجلات، يختار موضوعاته، يجمع مادته، يبذل جهده في القراءة والفحص والتدقيق والمقارنة ويعمل أدواته البحثية كمؤرخ وباحث اجتماعي ومحلل سياسي، ثم ينحي هذا كله جانبا ويقدم قلم الأديب ليصوغ نتاج هذه الرحلة في صياغات دقيقة جدا، محددة وناصعة، وجميلة أيضا وممتعة أيضا وهنا تظهر المقدرة السردية والمهارة الأسلوبية وخبرات الصحفي وروح الأديب،

وهكذا خرجت إلى النور هوامش المقريزي؛ 180 حكاية قصيرة للغاية، ويلتفت محمود عبد الشكور بذكاء إلى أن هذه الحكايات القصيرة كانت أقرب إلى مقاومة مكتوبة بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967، رؤية بالعمق لما تم نسيانه، في كل حكاية من الحكايات الـ 180 دلالة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وكأنها لمسة فرشاة في بورتريه الوطن.

وقليلون من يمتلكون هذا الوعي بالتاريخ، وهذه القدرة الأدبية على سرده، والمقارنة بين مصادره، الحقيقة أن اختيار الحكايات لا يخلو أيضًا من إسقاط على الحالة السياسية في بدايات حكم الرئيس السادات (مطالع السبعينيات من القرن الفائت)، فالماضي عند صلاح عيسى يستدعى دومًا من أجل الحاضر والمستقبل، وهو ليس مجرد حكايات للتسلية، ولذلك صارت زاوية «هوامش» التي يوقعها باسم «المقريزي» من أهم وأخطر زوايا جريدة «الجمهورية» الشهيرة، حتى توقفت السلسلة، لتظهر بعد ذلك في كتاب.

(5)

حتى الرمق الأخير، كان في جعبة صلاح عيسى الكثير ليرويه من «حكايات من دفتر الوطن»، ومن «حكايات من مصر» ومن «هوامش المقريزي»، منها ما تم فصولا، ومنها ما كان يستعد لكي يتخلق شاهدًا على العصر، ومؤرخًا لوطن يجاهد للتخلص من أسر ثقافة متكلسة إلى أخرى مغايرة؛ لكن ورغم ذلك كان يرى دائما أنها مهما تأخرت لكنها آتية بلا ريب، ومعها إعلان الخروج من الأنفاق المعتمة ومواجهة الأنوار الساطعة والامتلاء بها.