موقف قادة المال والتقنية في أمريكا من سياسات ترامب
الجمعة / 12 / ربيع الأول / 1447 هـ - 17:44 - الجمعة 5 سبتمبر 2025 17:44
جيمس فونتانيلا خان وآخرون- الفاينانشال تايمز 'ترجمة: قاسم مكي'
عندما حقق زهران ممداني فوزًا ساحقًا في انتخابات الحزب الديموقراطي التمهيدية لعمادة مدينة نيويورك في يونيو، انفجر قادة وول ستريت (المال) ووادي السيلكون (التقنية) في غضب عارم ضد وعوده بتجميد الإيجارات وتوفير حافلات نقل مجانية وبقالات تديرها سلطات المدينة.
حذر كل من بيل آكمان ودان لوب بليونيرا صناديق التحوط، وجيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان تشيس، وبرايان آرمسترونج الرئيس التنفيذي لشركة كويِنْبَيس ورائد التقنية، من مخاطر التدخل 'الفظ' في اقتصاد مدينة نيويورك.
ولجأ ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لبنك جولدمان ساكس، إلى منصة 'لِنكْد إن' لمهاجمة مقترح ممداني بتجميد الإيجارات الخاضعة لتنظيم سلطات المدينة. كتب سولومون: 'عندما حاولت نيويورك ذلك في عشرينيات وستينيات القرن الماضي، حدَّ من توافر الإسكان ميسور التكلفة وقلص الاستثمار في المساكن الجديدة وجعل السكن خارج المناطق الخاصة بتنظيم الإيجارات أكثر تكلفة'.
تدخلات إدارة ترامب
لكن رد الفعل كان مختلفًا جدًا عندما كشف رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب عن سلسلة التدخلات الفجة في آلية عمل النظام المالي وعمليات الشركات الخاصة في الأسابيع القليلة الماضية.
ففي يوم الاثنين 25 أغسطس، أعلن ترامب إقالة ليزا كوك، عضوة مجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي. وكان ذلك جزءًا من حملة أوسع نطاقًا بواسطة إدارته لفرض سيطرة سياسية أكبر على البنك المركزي الأمريكي بهدف خفض أسعار الفائدة. ويوم الجمعة 22 أغسطس، أعلنت إدارة ترامب أنها ستستحوذ على حصة بنسبة 10% في شركة الرقائق الإلكترونية 'انتل' باستخدام أموال مُنحت أصلاً أثناء إدارة بايدن في مسعى لتعزيز الصناعة التحويلية.
وافقت أنتل على الصفقة بعد أسبوعين من دعوة ترامب الرئيس التنفيذي للشركة ليب-بو تان إلى الاستقالة، وفي الأسبوع الماضي، قال وزير التجارة هاوارد لوتنك: إن الحكومة تدرس حيازة حصص في شركات الدفاع والذخائر، وستستقطع نسبة من الأرباح التي تحققها شركتا انفيديا وأيه أم دي من مبيعات الرقائق المتقدمة للصين. كما تفاوضت على 'حصة ذهبية' في شركة الصلب الأمريكية 'يو إس ستيل'. ويوم الثلاثاء قبل الماضي، أعلنت شركة سلسلة المطاعم 'كراكر باريل'، التي تقدم وجباتها على جنبات معظم الطرق السريعة الأمريكية، أنها تخلت عن تغيير علامتها التجارية بعد انتقاد الرئيس وحلفائه للعلامة البديلة لأنها صحوية (تعكس أفكار حركة الصحوة التقدمية 'ووك').
رد فعل محسوب
لكن نقد كبار قادة وول ستريت لتصعيد ترامب هجماته على بنك الاحتياطي الفيدرالي كان محدودًا. وفي حين ترقى العديد من تدخلاته في عمل الشركات إلى نوع من 'الاقتصاد الموجه' الذي كانت نخبة الأعمال الأوروبية في يوم ما تحب السخرية منه، إلا أن الرد (من قادة الأعمال) على أجندة ترامب كان أقرب إلى الصمت.
بل في الواقع، امتدح بعض قادتها محاولات ترامب لتوجيه الاقتصاد. ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، والتي ظلت لفترة طويلة زبونًا مهمًا لشركة انتل، حيَّا 'استراتيجية الرئيس ترامب الجريئة لإعادة بناء هذه الصناعة بالغة الأهمية على التراب الأمريكي'.
وقال تايلور بودوفيتش، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض: إن شركة كراكر باريل اتصلت لكي تشكر ترامب على 'إبداء رأيه' في تغيير علامتها التجارية. وكتب على منصة (إكس): 'أرادوا أن يعلم الرئيس بأنهم أنصتوا له'.
مقابلة ذلك مع ما حدث لزهران ممداني لافتة، فهناك النقد اللاذع للمرشح الأوفر حظًا في الفوز بمنصب عمدة مدينة نيويورك من قادة الأعمال، ولكن ضبط النفس المحسوب تجاه سعي الرئيس إلى إعادة تشكيل قواعد الاقتصاد الحر في أمريكا.
توجد عدة أسباب لهذا التحفظ، وهي تتراوح من الانتعاش الذي تشهده الأسواق المالية إلى الأمل بأن يكون الإقناع في السر أفضل من الحجاج العلني مع ترامب.
لكن رؤساء تنفيذيين ومستشارين عديدين يقولون: إن السبب الرئيسي هو الخوف؛ فانتقاد ترامب في رأيهم مخاطرة.
يقول إليا سومين، أستاذ القانون بجامعة جورج ميسون والعالم بمعهد كاتو الليبرتاري: 'إنهم يخافون من صاحب السلطة في واشنطن أكثر من خوفهم من عمدةٍ محتمل لنيويورك. وحتى إذا صار ممداني عمدة نيويورك، لن يكون لديه نوع السلطة التي يملكها رئيس الولايات المتحدة.'
رد الفعل الخافت من الأسواق تجاه تدخلات الرئيس وراء الصمت النسبي من قادة الأعمال والمال. فهي لم تتأثر تقريبًا بإعلان ترامب إقالة ليزا كوك بناء على مزاعم غش عقاري غير مثبتة. نعم، ارتفعت أسعار سندات الخزانة لأجل سنتين وبيعت السندات لأجل 30 عامًا، وازداد انحدار منحنى العائد (الفرق بين عوائدهما)، لكن تحركات الأسعار كانت متواضعة واستمرت أسعار الأسهم في الصعود (كأنما قرار إقالتها لا علاقة له بالسياسة النقدية – المترجم).
رفضت ليزا كوك، وهي أول امرأة سوداء تُعيَّن في مجلس محافظي الفيدرالي، التخلي عن منصبها ورفعت قضية قانونية ضد فصلها، الذي قالت إنه ينتهك حقوقها الدستورية.
لاحظ روبن بروكس، بمعهد بروكنجز، أن سوق الصرف الأجنبي كان أكثر تأثرًا بخطاب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول أمام مسئولي البنوك المركزية في مؤتمر جاكسون هول، عندما تحدث عن احتمال خفض أسعار الفائدة، من إعلان إقالة كوك. يقول: الأسواق 'تهتم بالمصلحة الآنية.' فهي تركز على مؤشرات أسعار الفائدة في الأجل القريب، وليس على الضرر الذي يلحق بصدقية البنك الفيدرالي في المدى البعيد. ويقول أيضًا: 'الأسواق تدرك تمامًا أن الفيدرالي يخفف من تشدده النقدي تحت ضغوط شديدة من البيت الأبيض'.
يقول بعض الاقتصاديين: إنهم يتوقعون رد فعل أقوى (تجاه ترامب) من مستثمري سوق السندات الذين عادة ما ينتقدون تجاوز الحكومات الحدود القانونية. يقول انيل كاشياب، أستاذ الاقتصاد بمدرسة بوث للأعمال التابعة لجامعة شيكاغو ومستشار إدارة الأبحاث بفرع الاحتياطي الفيدرالي في شيكاغو: 'بالنسبة لأولئك الذين يذهبون إلى جاكسون هول، هذا يماثل ما يعرف في المصطلح العسكري بحادثة 'تلوث بمواد خطرة من الدرجة الأولى' والتي تستدعي أعلى درجة من الاستعداد العسكري.' لكنه يقول إنه مندهش جدًا من رد فعل السوق الضعيف.
هيمنة السياسة المالية
يعتقد بعض المستثمرين أن رد الفعل الفاتر دليل على تشكُّل نموذج جديد يدعى 'الهيمنة المالية' تذعن فيه البنوك المركزية للسياسة. يقول شارلي مكليجوت، خبير المشتقات ببنك نومورا: 'سواء قبل الناس عملية تسييس البنوك المركزية هذه أم رفضوها، هذا هو السبيل الذي ستسلكه عندما تتعامل مع عجوزات مالية متضخمة.' ويضيف قائلًا: 'إذا افترضت أن دعم تيسير السياسة النقدية للسياسة المالية السخية سيرسِّخ التضخم، ستتصرف الأسواق على نحو ما هو متوقع منها بالضبط.' استشهد مكليجوت ببيع السندات طويلة الأجل، وارتفاع أسعار الذهب وعملة البيتكوين، وهذان الأخيران هما الملاذان المشهوران للتحوط من التضخم. لذلك يقول الرجل: 'إقالة ليزا كوك لا تغير أي شيء.'
يعتقد جيمس بيانكو، رئيس شركة بيانكو للأبحاث، أن انعدام رد الفعل (على تصرفات ترامب) لم يكن مفاجئًا. يقول: 'ما الذي يجب أن يواجه برد فعل؟ لم يتغير أي شيء،
البنك الفيدرالي سيخفض أسعار الفائدة بصرف النظر عن بقاء أو ذهاب كوك، إذا نصَّب ترامب مثلا ابنه إريك رئيسًا للفيدرالي، سنحصل عندئذ على رد فعل من السوق'.
ويرى ستيفن جراي، رئيس شركة جراي لإدارة القيمة، أن هدوء الأسواق لا يعني تأييد ترامب. يقول: 'سوق السندات ليست بحاجة إلى أن تردّ على الفور. لقد ضعفت حساسية المستثمرين. وهذه استجابة منطقية وطبيعية. إلى ذلك، الحماية التي تحظى بها ليزا كوك قوية، حتى إذا وضعنا في الاعتبار نفوذ ترامب على المحاكم'.
لكن البعض يحذر من أن التركيز على تأثير ما فعله ترامب في المدى القصير على أسعار الفائدة يتجاهل حقيقة أنه يسعى إلى إحداث تحول جذري في الطريقة التي يُدار بها اقتصاد الولايات المتحدة. يقول فريدريك ميشكِن، الأستاذ بمدرسة كولومبيا للأعمال والعضو السابق بمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي: 'إذا تساءلت لماذا أحد البلدان غني والآخر فقير، سيكون السبب المؤسسات.' ويضيف: 'في الأجل القصير، إقالة كوك لن تغير ما سيفعله الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة. والأسواق تركز على المدى القصير. لكن في المدى البعيد، هجمات ترامب أمر جلل. فتدمير المؤسسات التي خدمتنا جيدًا ولفترة طويلة كارثة'.
مقاومة ترامب
هل ستكون هنالك أية مقاومة لترامب؟ أكبر عائق أمام الرئيس سيكون المعارضة المنسقة من كبار الجمهوريين في الكونجرس؛ فالعديد منهم يعتبرون أنفسهم مدافعين عن مصالح الأعمال، لكن الأدلة قليلة على النقد العلني من قادة الجمهوريين إما لهجماته على البنك الفيدرالي أو تدخلاته في قطاع الأعمال، وهذا ما أثار سخرية الجمهوريين. 'معارضة!!! من الجمهوريين في الكونجرس!!' تساءلت في استنكار إليزابيث وارن، كبيرة الديموقراطيين في لجنة البنوك بمجلس الشيوخ، في مقابلة على قناة سي إن بي سي الأسبوع الماضي، وأضافت: 'هؤلاء الناس تلزمهم زراعة عمود فقري (لكي يكفوا عن الانحناء لرغبات ترامب – المترجم)'.
كان هنالك بعض النقد من المثقفين الجمهوريين والليبرتاريين الذين أدانوا بقوة تدخل ترامب في إدارة الشركات مثل انتل. كتب جول جريفيث، وهو زميل أول بمنظمة تعزيز الحرية الأمريكية على منصة اكس: 'التأميم الجزئي لشركة أنتل يعكس حقيقة مزعجة، وهي أن السياسة الاقتصادية تتحول باطراد إلى مزيج من الاشتراكية العالمية على صعيد اليسار والاشتراكية القومية على صعيد ما يُسمَّى اليمين الجديد'.
ويقول الخبير المحافظ أريك اريكسون في مدونة صوتية عن صفقة انتل: 'يؤسفني القول إن هذا فظيع.
إنها اشتراكية، إنها مخيفة.' ويضيف: 'هذه اشتراكية فعلية تحدث بواسطة إدارة جمهورية'.
يقول سومين، أستاذ القانون بجامعة جورج ميسون: 'ترامب حوَّل الحزب الجمهوري من حزب محافظ نسبيًا ومناصر لحرية السوق عمومًا إلى حزب أكثر شبها بحزب قومي يميني أوروبي يؤيد تدخل الحكومة في الاقتصاد.'
ويشرح ذلك بقوله: 'القوميون لديهم تاريخ طويل في هذه الأنواع من السياسات التدخلية، والتي تشترك في الكثير مع السياسات الاشتراكية اليسارية. لكن اللغة والرموز تختلف'.
العامل المفتاحي الآخر سيكون المعارضة العلنية من بعض كبار الشخصيات في وول ستريت. انتقد جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورجان، الهجمات على البنك الفيدرالي، ففي مكالمة مع محللين في الشهر الماضي قال: 'استقلال البنك الفيدرالي بالغ الأهمية.' وأضاف: 'العبث بالفيدرالي يمكن أن تترتب عليه عواقب سلبية.' لكن ديمون، الذي انتقص من قيمة آراء ممداني الاقتصادية واعتبرها 'نفس الهراء الإيديولوجي الذي لا يعني شيئًا في العالم الحقيقي'، وانتقد 'الأغبياء' في الحزب الديمقراطي، لم يذهب إلى حد انتقاد ترامب بشكل مباشر.
أيضًا دافع ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لبنك جولدمان ساكس، عن استقلال البنك الفيدرالي. وقال لقناة سي إن بي سي إنه 'شيء يجب أن نقاتل للحفاظ عليه'، دون أن ينتقد ترامب مباشرة.
قال ترامب مؤخرًا: إنه 'سيحب' استقالة باول إذا فعلها، لكنه يخشى أن تربك 'إقالته' السوق.
ويعتقد بعض المراقبين أن الإدارة الأمريكية ستعتبر غياب النقد من المستثمرين وقادة الأعمال أو أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين ضوءًا أخضر لشن المزيد من الهجمات على استقلال الفيدرالي.
ويرى آخرون أن نوعًا ما من 'المصلحة الذاتية' سيمنع قادة الشركات والمال من اتخاذ موقف علني ضد سياسات ترامب التدخلية.
يقول مسؤول تنفيذي مالي كبير وأحد قدامي المانحين للحزب الديموقراطي: 'ما يفعله ترامب بغيض، لكن في الحقيقة أنا مستفيد كثيرًا من سياساته؛ فقانونه الكبير والجميل خفَّض الضرائب التي أسددها، وعزز التدفق المالي لشركتي، وضخَّ الحوافز في السوق، لذلك تستمر محفظة استثماراتي في النمو'.