القُبّرة والعالم المتحوِّل
الثلاثاء / 9 / ربيع الأول / 1447 هـ - 19:43 - الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 19:43
لستُ أدري لمَ دومًا أبقى منشدًّا إلى قديم الأدب، وإلى حكَمِه، وجماله وقوّة قدرته على تمثّل العوالم، على وسيعِ آفاق حديثِ الأدب وعمق فلسفاته. ولا أريد التعمّق في التدبير والتقدير عن علّة عدم انقطاع حبل الوليد بيني وبين تراثي الأدبيّ، من ميْلٍ أصوليٍّ، ومن عقليّة منشدّة إلى القديم، ومن جيلٍ مهزوزٍ مهزومٍ يرى في قديمه انفراجًا لعقده الحالّة، كلّها إمكانات قائمة، ولكنّي تذكّرتُ اليوم، وأنا الأعجزُ عن الإعراض عن أُناسٍ تجمعني معهم الإنسانية، ويربطني بهم الدين، وتصلني بهم القوميّة، يموتون جوعًا، يتألّمون كلّ لحظةٍ من فقدان بسيطِ رقائق الحياة، والنّاسُ يُتخَمون بموائد الطّعام، يتحمّلون وزر فضلاته وبقاياه، ويتفكّرون في مستقبل البيئة والمحيط، لا أستطيع، مهما فعلتُ أن أدير وجهي وعقلي عن هذا الهمّ الذي نعيشه في صمت مطبق. في ظلّ هذه الإنسانيّة المتحوِّلة، التي لم يعد لجيلي فيها مكان وسيع، تذكّرتُ حكايةً من منقرَضِ الحكايات، فقد وردت حكاية في «كتاب الأذكياء» لابن الجوزي، يقول فيها: قَالَ الشّعبِيّ أُخْبرت أَنَّ رجلاً صَاد قبَّرةً، فَلَمَّا صَارَت فِي يَده قَالَت مَا تُرِيدُ أَن تصنع بِي؟ قَالَ أذبحك وآكلك. قَالَت مَا أُشفي من مرض وَلَا أشْبع من جوع، وَلَكِن أعلمِّك ثَلَاث خِصَال خير لَك من أكلي، أمَّا وَاحِدَة أعلمِّك وَأَنا فِي يدك، وَالثَّانيَِة على الشَّجَرَة، وَالثَّالِثَة على الْجَبَل.
فَقَالَ: هَات الْوَاحِدَة قَالَت لَا تلهفن على مَا فاتك. قَالَ فَلَمَّا صَارَت على الشَّجَرَة قَالَ لَهَا: هَات الثَّانِيَة قَالَت لَهُ: لَا تصدِّق بِمَا لَا يكون أَن يكون. فَلَمَّا صَارَت على الْجَبَل قَالَت لَهُ: يَا شقي لَو ذبحتني أخرجت من حوصلتي ذرّتين فِي كلّ وَاحِدَة عشرُون مِثْقَالا. قَالَ: فعضَّ على شَفَتَيْه وتلهَّف، ثمَّ قَالَ لَهَا: هَات الثَّالِثَة. قَالَت: أَنْت قد نسيت اثْنَيْنِ فَكيف أحَدِّثك بالثالثة؟ ألم أقل لَك لَا تلهفن على مَا فاتك وَلَا تصدّق بِمَا لَا يكون أَن يكون أَنا وريشي ولحمي لَا أكون عشْرين مِثْقَالا. قَالَ وطارت فَذَهَبت».
نعرف نحن هذه الحكاية بمضرب مثلٍ عنوانه «لا تندم على ما فات»، لا أعرف ما علّة تذكّري للقبَّرة الحكيمة التي صاغت فكرةً رافقتني منذ طفولتي، ومفادها ألاَّ نندم على ما فات، وأن نفكّر دومًا في الآتي. القبّرة الحكيمة من قبل ذلك، بحكمتها وسداد رأيها تمكنّت من مقايضة الصيّاد، ومن الظفر بحياتها، وكانت وفيّةً لوعدها.
الحكمة مقابل الحريّة، أعطت القبّرة، الطائر صغير الحجم، للصيّاد حكمةً ومنطقًا، أمّا المنطق فقد تمثَّل في إسقاط فعل الصيْد والظفر بغنيمة، فهي لا تصلح للإشباع بسبب صغر حجمها، ولا تصلح أن تكون دواءً يُتَعافَى به، وبذلك أسقطت القبَّرة كلّ فائدة من وهم الظفر بصيْدٍ، وفي المقابل، عرضت حكْمَتها، وعقْلَها وخبرتَها في الحياة، هذه الحكمة التي تكون بديلاً عن الصيْد، والأسْر، والمفترَض المنطقيّ في هذه العلاقة، أنّ القصَّة جعلت الطائر (القبَّرة) أوفر رأْيًا وعقْلاً من الصيّاد (البشر) وهي الحقيقة التي سايرها الصيّاد دون عميق رأيٍ أو كبير جدلٍ، وأذعن للمقايضة بكلّ يسْرٍ. الجميل في القصّة أنّ القبّرة قد طارت، وحلّقت في السّماء هازئةً من قلَّة عقل البشر، وأنَّ الراوي لم يُخبرنا عن مصير الصيَّاد، الذي بقي مكانه، لم يتحرّك، وللقارئ أن يتمثّل دهشته، وهو فاغرٌ فاه، لابثٌ في مكانه، يتساءل بعد فوات الأوان، هل كان حقيقًا به أن يحتفظ بالقبَّرة وأن ينعم بأكلها، ولعلَّ الندم قد بدأ يأكله وينخر عظامه ويتملَّكه وهو يتحسَّر على تركه القبَّرة تطير وعن نصائح تلقّاها لم يفهمها ولم يتعقّل منها معنى. بقي الصيَّاد مرابطًا في مكانه وعلامات الغباء بادية عليه. وأستحضرُ فيلمًا من إرثي السينمائي القديم «الناس اللّي تحت»، يرنُّ صدى جملة يردّدها العظيم يوسف وهبي مع خلفيّة صوتيّة للفنّانة القديرة فوزية إبراهيم، يقول فيها بنغمة يائسةٍ هازئة: «محلّك سرْ». هكذا تتأتّى هذه المرجعيّات السوداء والبيضاء في هذا العالم شديد الألوان حدّ الحلكة القاتمة. كأنّنا ما زلنا «محلّك سرْ»، كأنّنا الصيّاد الذي لم يتّعظ من حِكَم القبَّرة، في عالم يطير من بين أيدينا، يتحوَّل إلى مسار لا نعلم مستقرَّه ولا مظاهره، عالم ينعم بقتلٍ وفيرٍ للفلسطينيين، لم يعد فيه الفلسطينيّ إنسانًا، ولا حيوانًا.
أتخيّل لو كانت عصابة اليهود تُقتِّل كلّ يوم بالرَّصاص الحيّ، وتجوِّع رضّع أسودٍ أو قطط أو فئران لضجَّ العالم واهتزّ وانتفض، ومنع الأكل والسّلاح عن القتَلة، هل أصبحنَا في مرتبة أقلّ من الحيوان؟ هل العالم المتحوِّل قد صنَّف البشر، واتَّفق على أنّنا لا نستحقّ الحياة، ولكنّي ما زلتُ من جيلٍ يرى أنَّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة، وما زلتُ أنعم بقول درويش: «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة: ترَدُّدُ إبريلَ، رائحة الخبز في / الفجر، آراءُ امرأةٍ في الرِّجال، كِتاباتُ أسْخيليوس، أوَّلُ الحبِّ، عشبٌ/ على حجرٍ، أُمّهاتٌ تقفن على خيْطِ نايٍ، وخوْفُ الغزاة من الذكريَّات».
وما زال الإنسان الآليّ لا يعني لي إلاّ رُكامًا من الخردة، وما زال الذكاء الاصطناعيّ هو اصطناعيّ، وما زلتُ أحبّ روائح الخبز، وأنعم بطلوع الشمس، وأكره الغزاة وأنفر كلّ ظالم مستبدّ، وما زلتُ لا أقبل بأن يُؤكل الثور الأبيض. من شرْفةٍ تُقْصَف في أوكرانيا، أو ماء معدنيّ يقطَع تثور ثائرة الغرب الإنسانيّ جدًّا، ومن أشلاء أطفالٍ تُمزَّق أمعاؤهم كلّ ثانية يوجِد الغرب الإنسانيّ آلاف الأعذار للقتَلة.
من هذا الضيْم سيولد جيلٌ لم يعش ما عشناه من أوهام النكسات ومن أحلام النموذج الغربيّ باعث العدالة الكونيّة والقائم على روح الإنسانيّة، من هذه الأمشاج والأخلاط سيُبْعثُ جيلٌ واقعيّ، يُدرك حقائق الأوجه، ويُعَلّمنا ويُعْلمنا أنّنا محلّك سرْ، أنّ القبّرة قد طارت، وأنّه ينبغي علينا أن نتحرّك لننعم بنصْحها.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي