رحلات لا تنتهي..
الثلاثاء / 9 / ربيع الأول / 1447 هـ - 19:43 - الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 19:43
كان مسلسل ماركو بولو المعروض على «نتفليكس» كافيًا لشد انتباهي ومتابعته لسببين رئيسيين شخصيين، أولهما شخصية البطل وهو الرحالة الشهير الذي ارتبط اسمه بالمغامرة والتدوين، وثانيهما أن محتوى هذا العمل الدرامي يندرج ضمن أدب الرحلات وهو أكثر الأجناس الأدبية قربًا إلى نفسي حتى قبل الرواية والقصة، لما فيه من مزج فريد بين السرد والوصف، وبين الحقائق العلمية والتجارب الإنسانية.
بالعودة إلى ماركو بولو والمسلسل الدرامي وقبله كتابه الشهير، فما لا يعرفه الكثيرون أنه لم يقم بنفسه بكتابة الكتاب وتدوين رحلاته وإنما قام شفاهة بسرد وإملاء تلك الرحلات على رفيق له في السجن اسمه «روستيتشيللو» وهذا الأخير هو من قام بتدوين تلك القصص والحكايات في كتاب اختلفت الروايات في اسمه فمنهم من أطلق عليه اسم «عجائب العالم» ومنهم من يعرفه باسم «وصف العالم» كما في اللغة الفرنسية في حين أنه في اللغة الإيطالية الأم للرحالة الشهير أطلقوا عليه اسم «المشرق البولياني» لكن الاسم الأكثر شيوعا للكتاب هو «رحلات ماركو بولو»، وتأتي أهمية هذا العمل من كونه أول كتاب أوروبي يصف الشرق الأقصى، بما في ذلك الصين وبلاد المغول، وخاصة بلاط قوبلاي خان، أحد أعظم أباطرة المغول.
يقودني هذا المدخل إلى الحديث عن أدب الرحلات، ذلك اللون من الكتابة الذي لا يكتفي بوصف الطرق والمدن والثقافات والشعوب، بل يفتح للقارئ نوافذ على عوالم أخرى ويترك في ذاكرته أثرًا لا يُمحى. هذا النوع من الآداب أسهم في تشكيل الثقافة الإنسانية باعتباره الوسيلة الأولى والوحيدة في ذلك الوقت لاكتشاف الآخر والتعرف على عاداته وتاريخه تماما كما فعلت حكايات ماركو بولو في وصفه للشرق وعاداته وتقاليده وأسلوب عيشه.
ولعل الأمثلة هنا كثيرة لنسوقها للتدليل على الأثر الذي تركته مؤلفات المستكشفين والمؤرخين والرحالة في التاريخ الإنساني، ومن الأمثلة الأشهر في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي يأتي كتاب «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» لابن بطوطة الذي يعد حتى اليوم مرجعا رئيسا لفهم الشعوب والعادات والتقاليد التي لم يتغير فيها الكثير فالإنسان يبقى هو الإنسان وإن حاولت بعض عوامل التطور والمدنية تغييره وتبديله لكنه يبقى بالطباع ذاتها كما قال عنه ابن خلدون: طباع الناس وأخلاقهم تابعة للبيئة التي يسكنون فيها.
ومثلما هو الحال عندنا في المشرق في مرجعيتنا إلى كتاب ابن بطوطة لفهم التاريخ والإنسان والحضارة العربية والإسلامية من خلال رحلاته التي قام بها عبر 27 عاما قضاها في الترحال بين مشرق العالم العربي ومغربه وإفريقيا وآسيا وشبه الجزيرة الأيبيرية، فإن هنالك بعض كتب الرحلات المرجعية في التاريخ الإنساني التي تركت أثرا في البشرية مثل كتاب «تاريخ هيردوت» للمؤرخ اليوناني هيردوت الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ويعتبر كتابه مرجعا مهما في التاريخ والحضارة والترحال وأيضا كتاب كريستوفر كولومبوس «مذكرات الرحلة إلى العالم الجديد» الذي يصف فيه رحلته لاستكشاف الأمريكيتين وكتاب جيمس كوك رحلات الكابتن كوك التي استكشف فيها أستراليا ونيوزيلندا.
ولأدب الرحلات وجوه متعددة فهناك الرحلات العلمية التي انشغل أصحابها بجمع المعارف وتسجيل الظواهر الطبيعية والفلكية، مثل الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق وأيضا كتاب البحار العماني أحمد بن ماجد «الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» وهناك الرحلات الثقافية التي وثّقت عادات الشعوب وطقوسهم كما فعل ابن جبير في رحلته إلى المشرق. ثم جاءت الرحلات الاستكشافية التي غيرت وجه العالم، كرحلات كولومبوس وفاسكو دي جاما ومجلان، تلك التي لم تكتف برسم خرائط جديدة، بل أعادت تشكيل التاريخ البشري كله.
وعلى صعيدي الشخصي فإنني وكما أسلفت سابقا فإنني من المغرمين بقراءة كتب الرحلات قديمها وجديدها، وساهمت بعض من تلك القراءات في إذكاء شغفي بالرحلات والترحال، ولعل من أبرز الكتب التي تركت أثرا في نفسي كان كتاب «عبور الرمال» للرحالة البريطاني ويلفريد ثيسجر، هذا الكتاب الذي يظل حاضرًا في ذاكرتي حتى اليوم، لم يكن مجرد وصف لرحلة شاقة في صحراء الربع الخالي، بل كان نافذة على حياة البدو كما عاشوها بصدق وبساطة.
وإذا كان ثيسجر قد فتح لي بوابة الصحراء بعيون أجنبية، فإن محمد الحارثي الكاتب العماني قد قدّم لي الرحلة بعيون عمانية معاصرة. ففي كتبه مثل عين وجناح، ومحيط كاتمندو وفلفل أزرق كتب الحارثي عن الأمكنة بروح الشاعر وذاكرة المسافر، فلم يصف جغرافيتها فقط، بل التقط روحها وأعاد صياغتها بلغة مأسورة بالدهشة. هنالك رحلات لا تنتهي تبدأ من الكتب وتنتهي إليها ولا يمل من قراءتها والاستمتاع بذائقتها الأدبية من أمثال كتابات أنيس منصور وأمين الريحاني وأيضا بعض الأعداد من مجلات ناشيونال جيوجرافيك ومجلة العربي الكويتية كل تلك التدوينات تخلق رحلات تحلق عاليا في سماوات الدنيا وتجعل من الترحال متعة لا تنسى.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»