جلسة حوارية ترسم ملامح التحول بين الحداثة والتحديث
بعنوان «التقدّم .. مقوماته وسياساته وعقباته» في النادي الثقافي
الثلاثاء / 9 / ربيع الأول / 1447 هـ - 19:24 - الثلاثاء 2 سبتمبر 2025 19:24
عبدالاله بلقزيز: التقدم سؤالٌ حاكمٌ في الوعي العربي... والدولة الهجينة تعطل ثمار التعليم
كتب - فيصل بن سعيد العلوي
استضاف النادي الثقافي مساء أمس جلسة حوارية موسعة بعنوان 'التقدم: مقوماته وسياساته وعقباته'، أدارها الدكتور سعود الزدجالي، وتحدث فيها المفكر المغربي الدكتور عبدالإله بلقزيز أمام حضور نوعي من الأكاديميين والمهتمين بالشأن الفكري. وقدمت الأمسية، عبر سلسلة محاور متتابعة، قراءة مركبة لموقع سؤال التقدم في الفكر العربي الحديث، ولعلاقة الديني بالسياسي، ولمعضلة الدولة والمؤسسات، ولجدوى التعليم في ظل بيئات سياسية واجتماعية متباينة.
في البداية قدم الدكتور سعود الزدجالي مدير الجلسة صورة بانورامية لمشروع بلقزيز الفكري، مؤكدا أن اشتغاله يمتد من تحليل الاجتماع العربي وعلاقته بسيرورات التحديث، إلى تفكيك العلاقة بين الديني والدنيوي في مسار 'الإسلاميات النقدية'، مرورا بملفات الثقافة والمعرفة والإيديولوجيا وصلتها بمسألة التقدم، وأشار إلى أن ما يشد القارئ في نصوص 'بلقزيز' نسيج لغوي رصين ورشيق يجعل اللغة شريكا للفكرة لا مجرد حامل لها ...
وفي بداية الجلسة أكد المفكر المغربي عبدالاله بلقزيز وفاءه لتقاليد عربية عريقة في الكتابة 'ترى أن اللغة جزء من عمران النص'، وأوضح أن احترام قوانين القول، حتى في أكثر الموضوعات تجريدا، يفتح 'بوابات سالكة' إلى المعنى ويصون العلاقة بين الكاتب والمتلقي.
ومن ذلك المدخل انتقل 'بلقزيز' للإجابة على موضوع الجلسة حيث طرح سعود الزدجالي سؤالا قال فيه: لماذا ظل سؤال التقدم سؤالا حاكما في الوعي العربي منذ القرن التاسع عشر، وكيف تبدل حضوره في القرنين الأخيرين؟، وإجابة على السؤال استعاد 'بلقزيز' الخطوط الكبرى لرباعيته 'العرب والحداثة'، موضحا أن الفكر العربي دار طويلا حول ثنائية 'الإصلاح والنهضة' بوصفهما الإطارين الأوسع لصوغ الجواب عن سؤال 'كيف نتقدم؟'، ومع منتصف القرن العشرين تقدم مفهوم 'الثورة' إلى الصدارة باعتباره وعدا باستكمال ما عجزت عنه مراحل الإصلاح والنهضة، قبل أن تهتز ثقة النخب بهذا المفهوم بعد الهزائم والانكسارات الكبرى، فتتراجع مركزية التقدم لصالح خطاب دفاعي يتمحور حول الهوية، و هذا التحول ترك أثرا عميقا في بنية الخطاب العربي، إذ انتقلت البوصلة من الاجتهاد في سبل المشاركة في العصر إلى الانكماش داخل الأسوار الثقافية.
وشدد 'بلقزيز' على ضرورة التمييز بين 'الحداثة' كونها منظومة فكرية وقيمية ومؤسسية، و'التحديث' باعتباره ترقية مادية في الاقتصاد والعمران والتقنية، وبحب رأيه: فقد عرفت المنطقة العربية تحديثا واسع النطاق من دون أن يوازيه تأسيسٌ حداثي في الفكر والمؤسسات والثقافة السياسية، وهذه المفارقة انتقائية لا تنتج نهضة متماسكة وقال: لا يكفي أن نأخذ نصف الصورة ونترك نصفها الآخر، كما لا يجوز النظر إلى التراث أو إلى الغرب بعين تظهر جانبا وتطمس سواه.
وفي مقاربة العلاقة بين الديني والسياسي، عاد 'بلقزيز' إلى ما خلص إليه في كتابيه النبوة والسياسة والفتنة والانقسام، معتبرا أن تجربة المدينة شكلت نشأة مجال سياسي مميز بقدر من الاستقلال النسبي عن المجال الديني، وأكد أن التاريخ الإسلامي لم يعرف دولة ثيوقراطية بالمعنى الكهنوتي الشائع، وأن ما جرى في الغالب هو حكمٌ يمارسه الأمراء وتسند شرعيته تأويلاتٌ فقهية، وفي هذا السياق نبه إلى أن العبارة المتداولة 'الإسلام دين ودولة' ليست من عبارات المرحلة التأسيسية، وأن شيوعها جاء لاحقا ضمن مقارنات وسجالات فكرية حديثة، وبقدر ما دعا إلى تحرير الدين من الاستثمار السياسي، شدد على أن الدين 'ملكية جماعية للأمة'، وأن استدعاءه إلى صراعات الداخل يحوله من عامل توحيد إلى عنصر فرقة.
وانتقل بعدها المفكر عبدالاله بلقزيز إلى تعقيدات الدولة في العالم العربي، فوصف تكوينها بأنه 'هجِين' إدارة استعمارية حديثة وضعت فوق بنية تقليدية، فنتجت مؤسسات حديثة الشكل تقليدية المضمون، ورأى أن تصنع السياسات غالبا في قنوات موازية لا في المؤسسات الدستورية المعلنة، الأمر الذي يفرغ آليات المساءلة من مضمونها ويعطل دينامية المجال العام، وهنا تتبدى ـ بحسب رأيه ـ صلة ذلك كله بجدوى التعليم حيث قال: 'التعليم رهان أي مجتمع على النهوض، لكنه يفقد قيمته إن لم تهيأ له بيئة سياسية وقانونية واجتماعية عادلة'، فبدون إصلاح يضمن مسؤولية السلطة وشفافية القرار وتكافؤ الفرص، تبقى المعرفة غير قادرة على التحول إلى قوة دفع اقتصادية وثقافية، وتستمر هجرة الكفاءات.
وتوقف المتحدث عند ظاهرة 'التعصب'، مميزا بين تعصب وطني جامع يدخل في باب الاعتزاز بالانتماء، وتعصبات طائفية أو قبلية تمزق الجماعة الوطنية وتدخلها في نزاعات عمودية لا تنتج إلا الانقسام، والحل ـ في نظره ـ هو بناء شبكة متينة من المؤسسات المدنية (أحزاب، نقابات، منظمات مجتمع) تصهر المواطنين في فضاء عام مشترك وتحول الانقسام العمودي إلى تنافس أفقي مشروع على المصالح والبرامج.
وفي قراءة للتجربة العمانية نوه 'بلقزيز' بدرجة التسامح في البنية الداخلية للمجتمع، وبالسياسة الخارجية المتزنة التي مالت إلى الوساطة وبناء الجسور، معتبرا ذلك نموذجا عمليا لعقلانية سياسية تساعد على خفض التوترات وإدارة التنوع، وتقاطعت هذه الملاحظة مع الأسئلة التي طرحت في ختام الجلسة حول مرجعية الحداثة العربية وغاية الدولة بين العدل ورفاه المواطن، وفي هذا الباب أكد المتحدث أن 'العدل أساس الشرعية'، وأن قياس التقدم لا يقتصر على البنى التحتية أو مؤشرات النمو، بل يشمل الحقوق والحريات والمساواة، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس مؤسسات قادرة على إنتاج السياسات في العلن لا في الظل.
وشهدت الجلسة في ختامها نقاشاتٌ من الحضور لامست أسئلة مرجعية الحداثة العربية وغايات الدولة بين العدل ورفاه المواطن، ودور التعليم في تحويل المعرفة إلى قوة اجتماعية، وسط تفاعل مع ضيف الجلسة الذي أثرى أجواء مساحة التفاعل في ختام الجلسة بالنادي الثقافي مساء أمس.