أفكار وآراء

الولايات المتحدة تدخل طور الاستبداد الكامل

 

ترجمة: بدر بن خميس الظفري 

لو أن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة جرى في مكان آخر؛ في أمريكا اللاتينية مثلًا فكيف كان سيُنقل الخبر؟ الرئيس ترامب بعد أن أحكم قبضته على العاصمة يستعد لإرسال قوات إلى عدة مدن يصفها بالمتمردة مدّعيًا أن السكان هناك يريدون إعادة النظام. الخطوة جاءت بعد مداهمات لمنازل أبرز المعارضين بينما يواصل رجال مسلحون يُنظر إليهم على أنهم موالون للرئيس -وكثير منهم ملثّمون- خطف الناس من الشوارع... 

لكن الواقع أن هذا يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولهذا لا نتحدث عنه بهذه الطريقة. وهناك سبب آخر أيضًا، وهو أن مسيرة دونالد ترامب نحو الاستبداد ثابتة ومتصاعدة؛ يخطو كل يوم خطوة أو خطوتين إضافيتين إلى درجة تجعل الناس يعتادون الأمر، فلا يمكن أن تظل في حالة صدمة إلى الأبد. إلى جانب ذلك يخشى العقلاء أن يُتهموا بالمبالغة أو الهستيريا، فيميلون إلى التخفيف لا إلى الصراخ. وهناك شيء آخر أيضًا، فسلوك ترامب الشبيه بالديكتاتور فجّ وواضح لدرجة أننا بشكل مفارق نتجاهله. الأمر أشبه بأن يوقظك ليلًا لص من الواضح أنه لص يرتدي قميصًا مخططًا، ويحمل كيسًا مكتوبًا عليه «مسروقات»؛ سنظنه مزحة أو تمثيلية أو شيئًا غير واقعي بدل أن نراه خطرًا حقيقيًا. وهذا ما يحدث مع ترامب؛ إننا لا نستطيع أن نصدق تمامًا ما نراه. 

لكن ها هو الواقع؛ فترامب نشر الحرس الوطني في شوارع واشنطن العاصمة بحيث بات هناك الآن ألفا جندي مدججون بالسلاح يجوبون العاصمة. الذريعة هي مكافحة الجريمة، لكن العنف في واشنطن كان في أدنى مستوى له منذ ثلاثين عامًا عندما اتخذ خطوته. الرئيس حذّر من أن شيكاغو ستكون التالية، وربما بالتيمور أيضًا. في يونيو أرسل الحرس الوطني ومشاة البحرية إلى لوس أنجلوس؛ لقمع احتجاجات ضد سياساته الخاصة بالهجرة احتجاجات وصفتها الإدارة بأنها «تمرّد». وكان المتظاهرون يشكون من رجال دائرة الهجرة الملثمين الذين بفضل ترامب باتت ميزانيتهم تضاهي ميزانيات كبرى الجيوش في العالم؛ يختطفون الناس من الشوارع، أو يسحبونهم من سياراتهم. هذه المدن جميعها تحت إدارة ديمقراطية، وليست مصادفة أن بها نسبًا عالية من السكان السود. إنها مراكز محتملة لمعارضة حكم ترامب، وهو يريد أن تكون تحت سيطرته. الدستور الأمريكي الذي يصرّ على أن للولايات سلطاتها الخاصة وأن سلطة الحكومة الفيدرالية محدودة، وهو مبدأ كان حتى وقت قريب مقدسًا لدى الجمهوريين، وصار في حكم الملغى. الغاية هي السيطرة، وحصر السلطة في يد الرئيس، وإزالة أو إضعاف أي مؤسسة أو شخصية يمكن أن تقف في طريقه. هذه هي القاعدة التي تفسّر كل فعل يقوم به ترامب صغيرًا كان أو كبيرًا من حروبه ضد الإعلام والقضاء والجامعات إلى هجماته على موظفي الخدمة المدنية في الحكومة الفيدرالية. وهو ما يفسر أيضًا لماذا شن عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأسبوع الماضي مداهمة في السابعة صباحًا على منزل ومكتب جون بولتون مستشاره السابق للأمن القومي وأحد أبرز منتقديه الآن. ولماذا لمح الرئيس بتهديد غامض ضد كريس كريستي الحاكم السابق لولاية نيوجيرسي. وهو ما يفسر أيضًا لماذا حطّم كل الأعراف -وربما القانون الأمريكي- بمحاولته عزل ليزا كوك من عضوية مجلس الاحتياطي الفيدرالي بتهمة احتيال عقاري غير مثبتة. هذه الاتهامات بُنيت على معلومات وفّرها موالٍ لترامب عُيّن مديرًا للإسكان الفيدرالي، والذي -بحسب صحيفة نيويورك تايمز- استغل مرارًا «صلاحيات منصبه؛ للتحقيق مع أعداء ترامب السياسيين الأكثر شهرة أو مهاجمتهم». النمط واضح؛ فترامب يستخدم مؤسسات الدولة لملاحقة خصومه بطريقة تذكّر بأسوأ ما فعله ريتشارد نيكسون مع فارق أن نيكسون كان يختبئ في الظل بينما تجاوزات ترامب علنية. 

وكل ذلك في سبيل مزيد من السلطة. خذ مثلًا إقالة كوك؛ مع تراجع شعبيته -خصوصًا بسبب طريقة إدارته للاقتصاد- يسعى ترامب إلى «دفعة سريعة» عبر خفض أسعار الفائدة. البنك المركزي المستقل يرفض ذلك، فيريد ترامب إزاحة مجلس الاحتياطي الفيدرالي جانبًا ليحتكر بنفسه سلطة تحديد أسعار الفائدة. لاحظ التبرير الذي قدمه جي دي فانس هذا الأسبوع، فترامب «أقدر بكثير على اتخاذ هذه القرارات» من «بيروقراطيين غير منتخبين»؛ لأنه يجسّد إرادة الشعب. هذا المنطق هو استبداد خالص؛ إذ يزعم أن مبدأً أساسيًا في الدستور الأمريكي -وهو فصل السلطات- يجب أن يُزال جانبًا؛ لأن السلطة الشرعية كلها تكمن في رجل واحد فقط. بالطبع؛ أكبر عائق أمام ترامب سيكون انتصار المعارضة في انتخابات ديمقراطية تحديدًا إذا سيطر الديمقراطيون على مجلس النواب في نوفمبر 2026. ترامب يعمل جاهدًا لمنع ذلك. شاهد ما حدث هذا الشهر في تكساس؛ حيث أعاد الجمهوريون بأوامر منه رسم حدود الدوائر الانتخابية ليضيفوا خمسة مقاعد آمنة لأنفسهم في المجلس. ترامب يريد مزيدا من الولايات أن تحذو حذو تكساس؛ لأنه يدرك أن مجلسًا للنواب يسيطر عليه الديمقراطيون سيكون لديه سلطات رقابية يخشاها بحق. 

وفي الأثناء -وبدا أن ذلك جاء بدفع من لقائه مع فلاديمير بوتين-؛ عاد ترامب ليشن حربًا ضد التصويت عبر البريد مدعيًا بلا أساس أنه مليء بالتزوير، وطالب أيضًا بإجراء إحصاء سكاني جديد يستبعد المهاجرين غير النظاميين، وهي خطوات ستساعد الجمهوريين على الفوز في 2026 أو ستتيح له على الأقل الادعاء بأن أي فوز ديمقراطي غير شرعي ويجب إبطاله. 

وبنفس الروح صار البيت الأبيض تحت إدارة ترامب يجادل بأن حزبًا واحدًا فقط ينبغي أن يمارس السلطة في الولايات المتحدة. كيف غير ذلك يمكن فهم كلمات مستشاره ستيفن ميلر الذي قال هذا الأسبوع لقناة فوكس نيوز: «إن الحزب الديمقراطي ليس حزبًا سياسيًا، بل تنظيم متطرف داخلي». المشهد ذاته يتكرر في كل الجبهات سواء كان ذلك في خطط إقامة عرض عسكري جديد على شرف ترامب، أو في إقالة موظفي الصحة الذين يصرون على تقديم الولاء العلمي على الولاء السياسي. إنه مصمم على تركيز السلطة في يده، وعلى أن يراه العالم وهو يركّزها في يده، حتى لو تطلب الأمر التخلي عن مبادئ الجمهوريين الاقتصادية التقليدية، والسماح للحكومة الفيدرالية بالاستحواذ على حصص في شركات خاصة. يريد أن يحكم كل تفاصيل الحياة الأمريكية. وكما قال ترامب نفسه هذا الأسبوع: «كثير من الناس يقولون: ربما نريد ديكتاتورًا». المستشار السابق لباراك أوباما -ديفيد أكسلرود- لم يكن وحده عندما قال: «لقد انتقلنا من الصفر إلى نظام يشبه ما يحدث في المجر أسرع مما كنت أتصور». 

المشكلة أن الناس لا يتحدثون عن الأمر بنفس الطريقة التي يتحدثون بها عن المجر، لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها. والسبب يعود جزئيًا إلى عقلية مفادها «أنّ هذا لا يمكن أن يحدث هنا»، وجزئيًا إلى تردد في تقبّل واقع سيجبر الحكومات الأجنبية خصوصًا على إعادة التفكير في كل شيء تقريبًا. فإذا كانت الولايات المتحدة تسير نحو نظام سلطوي غير مستقر، أو ما قد يسميه الباحثون «استبدادًا غير مترسخ»؛ فإن ذلك يغيّر بالكامل موقع بريطانيا الاستراتيجي ومكانتها في العالم التي قامت طوال ثمانين عامًا على فرضية وجود غرب تقوده أمريكا مستقرة وديمقراطية. وينطبق الأمر نفسه على الاتحاد الأوروبي. من الأسهل أن يواصلوا مسيرهم وكأن التحول الجاري في الولايات المتحدة ليس خطيرًا بالقدر الذي هو عليه فعلًا، أو أنه مؤقت وسينتهي قريبًا. لكن قادة العالم -وكذلك المواطنون الأمريكيون-لا يمكنهم تجاهل الأدلة إلى ما لا نهاية. وبالاقتباس من عنوان رواية قديمة: يمكن أن يحدث هنا، وهو يحدث بالفعل. 

 جوناثان فريدلاند كاتب في صحيفة الجارديان 

 عن الجارديان البريطانية