د. أحمد السعيد: أفضِّل لقب "ابن بطوطة" على لقب "مارك بولو"
الاحد / 7 / ربيع الأول / 1447 هـ - 18:28 - الاحد 31 أغسطس 2025 18:28
الحوار مع الكاتب والناشر المصري الدكتور أحمد السعيد عن الصين ممتع للغاية، بسبب تجربته الطويلة معها، ودراسته للغتها، وإعجابه بثقافتها، بعد أن سافر إليها، واحتك بكتَّابها، وعلمائها، وساستها، ومواطنيها العاديين. سأل السعيد نفسه: لماذا لا أفكر في مشروع يكون جسراً بين الثقافتين الصينية والعربية، والآن وبعد سنوات على ذلك السؤال أصبح مساهماً عبر دار النشر التي يديرها وهي 'بيت الحكمة' في ألف عنوان تقريباً عنها، نقلها 130 مترجمًا، إلى الصينية والعربية.
وبسبب جهوده الكبيرة أطلقوا عليه هناك لقب 'ماركو بولو العالم العربي'، وهذا الاسم لمستكشف من البندقية كان هو وأبوه نيكولو وعمه مافيو أول الغربيين الذين سلكوا طريق الحرير إلى الصين.. ومع اعتزازه بذلك التكريم إلا أنه كان يتمنى لقباً شرقياً مثل ابن بطوطة.
أصدر السعيد مؤخراً كتابه 'الصين من الداخل'، وقدم فيه صورة شديدة الصدق للصين، وثقافتها، وكيف توجه تلك الثقافة الجميع هناك بمَن فيهم حاكمها. في هذا الحوار نبحر مع السعيد في رحلة ممتعة نتجاوز فيها سور الصين العظيم.
قبل أن أناقشك في كتاب 'الصين من الداخل'.. أريد أن تعرِّفنا على قصتك مع الصين وكيف بدأ ولعك بها؟
قصتي مع الصين بدأت بمحض الصدفة البحتة، وبالمعنى الحرفي للكلمة. قبل خمسة وعشرين عامًا، كنت أبحث عن تخصص أختاره في كلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر، وفجأة وجدت قسم اللغة الصينية يفتح أبوابه لأول مرة. لم يكن في مخيلتي وقتها أي اهتمام خاص بالصين، ولا تصورت أن هذه الخطوة ستشكل مسار حياتي كله. اخترت التخصص مصادفة، أو ربما هروبًا من دراسة التخصصات العلمية كالعلوم والصيدلة، ولم أكن من النوع الذي يضع خططًا طويلة الأمد أو يرسم مستقبله بدقة.
في بيتي، لم يكن هذا الاختيار محل ترحيب. كان غريبًا على العائلة، وكأنني قررت السفر إلى أرض مجهولة لا يعرف أحد ملامحها. لكن بالنسبة لي، كنت أشعر وكأنني مثل طارق بن زياد وهو يحرق سفنه: لا مجال للتراجع ولا طريق سوى المضي قدمًا.
درست اللغة الصينية، وبعد التخرج عملت في بعض السفارات، ثم التحقت بالقوات المسلحة لمدة ثلاث سنوات مترجمًا ومعلّمًا للغة الصينية. كانت تجربة أضافت إلى خبرتي انضباطًا وفهمًا أعمق لقيمة اللغة في المجال العملي، وكيف يمكن أن تتحول من مجرد دراسة أكاديمية إلى أداة للتواصل وفهم الآخر.
ثم جاءت المحطة المفصلية، قبل خمسة عشر عامًا، سافرت إلى الصين للعمل مترجمًا ومستشارًا في مصلحة الخبراء الأجانب. لم يكن السفر في خطتي الأولى، لكنه فتح أمامي أفقًا جديدًا بالكامل. هناك، استهوتني فكرة التعاون الثقافي بين الصين والدول العربية، وأدركت أن هناك فراغًا يمكن أن أملأه، وجسرًا يمكن أن أمدَّه بين حضارتين. لم أكن أنوي تأسيس مؤسسة، لكن 'بيت الحكمة للثقافة' وُلد من هذا الشعور، من شغفي بالترجمة وحبي للجسور التي تربط بين اللغات والثقافات.
اليوم، بعد أن أصبح لبيت الحكمة فروع في خمس دول، ويعمل مع أكثر من 130 مترجمًا، وأنتج حوالي ألف كتاب بين الصينية والعربية، أستطيع أن أقول إن الصدفة لم تكن مجرد بداية القصة، بل كانت روحها. هي التي دفعتني لكل خطوة، حتى حين كنت أظن أنني أنا من يقرر.
صدر كتابك 'سنواتى في الصين' قبل خمس سنوات (2020).. لو أنك كتبته الآن ماذا تضيف إليه؟
لو أعدت كتابة 'سنواتي في الصين' الآن، فسأضيف إليه الكثير مما لم أقله في طبعته الأولى. سأكتب عن التمازج الثقافي الذي يحدث داخل العقل البشري بفعل الزمن، ذلك التغيير البطيء الذي لا تشعر به إلا عندما تنظر خلفك بعد سنوات. سأضيف فصلًا عن الثقافة الصينية كما تراها في السلوك اليومي: في الأسواق، في مكاتب العمل، في المقاهي الصغيرة، في طريقة الناس في ترتيب أطباق الطعام، في أسلوب الاعتذار والشكر.
وسأكتب عن أثر الأدباء العرب – محفوظ، أدونيس، درويش – في القارئ الصيني، وعن ذلك اللمعان في العيون حين يكتشف القارئ شيئًا من ذاته في نص جاء من بعيد. وسأتحدث عن تطور معيشة الأجانب في الصين، وكيف تحوَّلت الحياة هناك من تحدٍ يومي في سنواتي الأولى إلى بيئة أكثر راحة وانفتاحًا، خاصة في المدن الكبرى. وربما سأفرد فصلا كاملًا عن سنوات جائحة كورونا، عن الحذر الجماعي، وعن تضامن الجيران – صينيين وأجانب – وهم يتقاسمون الطعام والأخبار، وعن الإحساس أننا جميعًا نعيش نفس اللحظة ونحمل نفس المخاوف.
كيف استقبلت إطلاق الصينيين لقب 'ماركو بولو العالم العربي' عليك؟
هذا اللقب جاء من رئيس تحرير 'الشعب'، الصحيفة الرسمية للحكومة والحزب وأكبر وسيلة إعلامية في البلاد، التي كانت في وقت ما توزع مائة مليون نسخة. أرادوا باللقب القول إن جهودي في التعريف بالصين لم تذهب هباء. شعرت بالفخر، خاصة وأنها المرة الأولى التي يُمنح فيها هذا اللقب لأجنبي في الصين. ومع ذلك، لم أستطع أن أتجاهل إحساسي بالتحفظ.
ماركو بولو رحالة غربي، وأنا أنتمي لثقافة الشرق. لو كان لي أن أختار، لاخترت أن أكون ابن بطوطة، أو المسعودي، أو التاجر سليمان، أول مستكشف مسلم للصين. فالعرب والمسلمون عرفوا الصين وكتبوا عنها قبل الأوروبيين بقرون، لكن الغرب – حين وصل في القرن السادس عشر مع البرتغاليين – استولى على موانئنا وطرق تجارتنا، وأعاد كتابة التاريخ من منظوره الخاص، واضعًا نفسه في قلب الحكاية.
كتابك 'الصين من الداخل' يتميَّز بالمزج بين بساطة اللغة مع رصانتها وعمق الطرح مع عدم انغلاقه.. ما القارئ الذي تستهدفه؟
كتابي 'الصين من الداخل' كان بالنسبة لي محاولة لعمل جسر حقيقي بين القارئ العربي والصين. أردته أن يكون كتابًا يستطيع أي شخص أن يقرأه ويفهمه، سواء كان باحثًا أو قارئًا عاديًا، وألا يكون كتابًا أكاديميًا ثقيلًا أو نصًا دعائيًا يردد ما تقوله أي جهة.
من أول يوم في الكتابة كنت واضحًا مع نفسي أن الهدف هو تقديم صورة صادقة وواضحة عن الصين كما هي، دون تلميع أو إساءة، ودون أن أفرض على القارئ رأيي. دوري أن أشرح وأنقل ما أراه وأعرفه، والقارئ هو من يقرر في النهاية.
كتبت الكتاب ثلاث مرات خلال ثلاث سنوات. كنت أبدأ وأمحو وأعيد من جديد، لأنني لا أريد أن أقع في فخ المديح أو في فخ التكرار لما هو معروف. كنت أبحث عن التوازن بين اللغة السهلة التي لا تثقل على القارئ، وبين الفكرة العميقة التي تحترم عقل من يقرأ.
اعتمدت في الكتاب على ما عشته ورأيته بنفسي خلال سنواتي في الصين وما قرأته عن الثقافة الصينية وقد استعنت في الكتاب بمئة مرجع من ثلاثة لغات، تحوي مواقف وتجارب وأحاديث مع الصينيين ومَن يعيشون بينهم، وليس على ما يُقال في الإعلام أو الكتب الجاهزة. حاولت أن أقدِّم للقارئ تفاصيل من الداخل: كيف يفكر الناس، كيف يتصرفون، كيف ينظرون للعالم ولأنفسهم.
كنت دائمًا أضع نفسي مكان القارئ العربي الذي يريد أن يفهم الصين، وأتذكر أنني في بداياتي كنت أبحث عن كتاب يقدم لي هذه الصورة ولم أجد. لذلك أردت أن يكون هذا الكتاب هو ما تمنيت قراءته قبل سنوات، كتابًا يمشي بالقارئ خطوة خطوة داخل الثقافة الصينية، ويعرِّفه على ملامحها وأفكارها وعلاقتها بالسياسة والمجتمع، ثم يترك له مساحة ليكوِّن رأيه بنفسه.
لماذا أردت أن ترسم صورة للصين كما أرادتها هي وليس كما تراها أنت؟
لأنني ببساطة لا أحب فرض الرأي على القارئ. لا أريد أن أضعه أمام نسخة جاهزة من الحقيقة، بل أريد أن أترك له المجال ليكوِّن رأيه بنفسه، بناءً على ما يقرأ ويرى. أرى أن دوري في هذا الكتاب هو أن أكون وسيطًا أمينًا بين ثقافتين، لا قاضيًا يمنح حكمًا نهائيًا.
في تجربتي، سواء في الترجمة أو الكتابة أو إدارة مشاريع ثقافية، تعلمت أن الصورة التي تنقلها عن أي بلد أو ثقافة، إذا كانت مرسومة بفرشاة رأيك الشخصي فقط، فهي صورة ناقصة مهما كانت دقيقة من وجهة نظرك. لذلك سعيت في 'الصين من الداخل' أن أضع أمام القارئ الرواية كما يراها الصينيون أنفسهم، من مصادرهم وخطابهم وممارساتهم، لا من عدستي وحدي.
أنا أؤمن أن من يعمل في مجال الثقافة بين حضارتين يشبه الرسول الذي ينقل الرسالة. ومهمته كما جاء في النص القرآني: 'البلاغ المبين'. وهذا البلاغ المبين ليس شعارات أو خطباً، بل عرض واضح، خالٍ من التشويش، وأمين في نقل المعلومة والفكرة، وبسيط بحيث يستطيع أي قارئ أن يستوعبه.
ما أردته هو أن يخرج القارئ من الكتاب وقد رأى الصين بعيون أبنائها، وفهم كيف تصف هي نفسها، ثم يضيف إلى ذلك ما يشاء من ملاحظاته أو تجاربه أو مصادر أخرى. هذه بالنسبة لي هي الطريقة التي تحترم عقل القارئ، وتحترم أيضًا صدق المهنة التي اخترتها لنفسي.
كيف جعلتْ الثقافةُ الصينية حكَّامها مختلفين على مر العصور؟
في الثقافة الصينية، الحاكم ليس مجرد شخص يدير شؤون الدولة أو يمارس السلطة، بل هو ظل السماء على الأرض، مفوض منها بالحكم، ومسئوليته تتجاوز السياسة إلى الفكر والثقافة وتشكيل الوعي. هذا التصور عميق الجذور في التاريخ الصيني، وهو الذي جعل منصب الحاكم عبر القرون يرتبط بفكرة الرسالة الأخلاقية والالتزام تجاه الشعب، لا بمجرد السلطة الإدارية أو القوة العسكرية.
ومهما تغيَّر اسم الحاكم أو نظام الحكم، تبقى الفكرة ثابتة: الحاكم امتداد لما سبقه، حلقة في سلسلة طويلة تمتد لآلاف السنين. هو مطالب أن يأخذ من السابقين ما هو صالح، ويحافظ عليه، وأن يواجه ما هو سلبي في الإرث القديم ويحاول إصلاحه، وأن يضيف من روحه وتجربته ما يناسب عصره. لكن كل ذلك يجب أن يتم دون أن يهدم الجذور أو يتنكر للإرث الذي بُنيت عليه الأمة.
هذا التصور يفسر لماذا في الصين، حتى القادة الأكثر إصلاحًا أو الأكثر ثورية، حرصوا على ربط أنفسهم بالتاريخ، واستدعاء أسماء وأفكار من الماضي لتبرير أو تفسير سياسات الحاضر. في العقل الصيني، الحاكم الذي يقطع الصلة بما قبله يفقد شرعيته، بينما الذي يحافظ على الخيط الواصل بين الأمس واليوم يرسِّخ مكانته ويكسب ثقة الناس.
وبالنسبة للصينيين، فكرة 'ظل السماء' ليست مجرد استعارة، بل هي معيار للحكم على الحاكم نفسه. فإذا كان ظله مستقيمًا وعادلاً، اعتبروا ذلك علامة على أن حكمه منسجم مع إرادة السماء ومع قيم العدالة والانسجام التي يؤمنون بها. وإذا مال الظل أو انحرف، كان ذلك دليلاً على أن الحاكم ابتعد عن الطريق الصحيح، حتى لو كانت إنجازاته المادية كبيرة.
هذه الرؤية تجعل السياسة في الصين مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة والفكر، وتجعل الحاكم جزءًا من مسار حضاري طويل، لا مجرد فاعل سياسي في فترة زمنية محدودة.
هل الكتب التسعة (الكتب الأربعة التي تشكل جوهر الكونفشيوسية الأخلاقية، والكلاسيكيات الخمسة التي تعود إلى مرحلة ما قبل كونفشيوس) تمثل جوهر الصين؟
الكتب التسعة هي العمود الفقري للثقافة الصينية، أشبه بكتاب مقدس بلا طابع ديني. في بداياتها، كانت تضبط حياة العامة وتوجه النخبة، لكن مع مرور الوقت دمجها تلاميذ كونفوشيوس في فكره، فاكتسبت قدسية أكبر، وأصبحت جزءًا من العقل الجمعي.
هل لمست القيم الأساسية المكوِّنة لمنظومة الثقافة الصينية على أرض الواقع؟
القيم الأساسية في الثقافة الصينية لا تحتاج أن تبحث عنها في الكتب، تراها أمامك كل يوم إذا عشت بينهم. أذكر أول مرة جلست فيها على مائدة صينية رسمية، لاحظت أن ترتيب المقاعد لم يكن عشوائيًا أبدًا. هناك دائمًا مقعد رئيسي للضيف الأهم، وإلى جانبه مقاعد مرتبة وفق احترام المكانة والعمر والعلاقة. حتى من يسكب الشاي أو يملأ الكوب له ترتيب، وكأنه مشهد مدروس بعناية منذ مئات السنين.
في التحية، تراها بسيطة، مجرد مصافحة أو ابتسامة، لكن خلفها فكرة عميقة عن حفظ الوجه والاحترام المتبادل. في المفاوضات، لا يبدأون مباشرة بالكلام عن الأرقام أو العقود، بل يفتحون الباب للحديث العام، ربما عن الطقس أو عن مدينة الضيف أو حتى عن الطعام الذي سيُقدَّم لاحقًا. وكأنهم يريدون أن يقولوا: قبل أن نتفق في العمل، يجب أن نتقارب كبشر.
حتى في الضيافة، التفاصيل الصغيرة تحمل القيم الكبيرة. مثلًا، أن يضع لك صاحب الدعوة قطعة الطعام المفضلة لديك في طبقك بنفسه، أو أن يترك لك آخر قطعة في الطبق احترامًا لكونك ضيفًا. هذه أمور قد يظنها البعض مجاملات، لكنها في الصين جزء من نسيج الحياة، من طريقة التفكير والتعامل.
صحيح أن أشكال هذه القيم قد تتغير مع الحداثة، فالموائد اليوم قد تكون في مطاعم فاخرة، والتحية قد تتم على عجل بين الاجتماعات، لكن الجوهر يبقى كما هو. هناك خيط ثقافي واحد يربط الماضي بالحاضر، وكأنك تتعامل مع نفس الروح التي تعامل معها الناس قبل مئات السنين، فقط بشكل أكثر حداثة.
يقول لاو تسي: 'لا تتدخل، فكل شيء سينتظم من تلقاء ذاته' وهو يقصد أن الحاكم هو من لا يشعر به الناس ولا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة.. هل يتحقق ذلك في سياسات الصين؟
تتحقق بشكل ضمني. التدخل الحكومي موجود دائمًا، لكن في الغالب يكون غير مرئي. الدولة اشتراكية على الطريقة الصينية، الأرض ملك للدولة والبيوت ملك للشعب. الحكومة تضع الخطوط العريضة، والشعب يتولى التفاصيل. الحاكم يتيح المجال العام، ولا يتدخل في المنافسة إلا إذا وقعت مشكلات كبيرة. هذه فلسفة صينية قد يصعب فهمها في ثقافتنا، لكنها جزء من طبيعة الصينيين حتى على مستوى الأفراد.
كيف ساهمت الثقافة في انفتاح الصينيين على الآخر؟
الثقافة الصينية، لأسباب تاريخية، كانت في كثير من الأحيان سببًا في الانغلاق أكثر من الانفتاح. الشخصية الصينية تميل إلى الاكتفاء الذاتي والانغلاق النسبي، فهي تتقبل الآخر وتدمجه تدريجيًا، لكنها ليست سهلة الانفتاح الكامل. هي ثقافة متكاملة الأركان، محورها الشخصية الصينية، ووجود الآخر فيها كان – قديمًا وحديثًا – محدودًا، لكنها ليست عدوانية أو تحتل الآخر. واليوم، يحاول الصينيون أن يكونوا أكثر انفتاحًا ومرونة.
في رأيك هل كتابك يشبه مقدمة لازمة لكل من يريد أن يبحر في الثقافة الصينية؟
أتمنى أن يكون كتابي هذا مقدمة لكل من يريد أن يبحر في الثقافة الصينية، أو حجر أساس يبني عليه الآخرون ويكملون ما فيه من قصور، ودعوة لمزيد من الكتابات الأكثر عددًا وعمقًا وتفصيلًا.
كيف أزاح مفهوم 'توافق بكين' مفهوم 'توافق واشنطن'؟
أزاحه لأنه يقدم السلام بدل الحرب، والربح المشترك بدل الهيمنة، والتعددية بدل القطب الواحد، والمساواة بدل التمييز. لقد وجد قبولًا أكبر، لأنه يكشف زيف الطرح الأمريكي وقصوره.
هل ترى أن الثقافة العربية تميل إلى تنميط الآخر أو تنخدع بالرؤية الغربية في النظر إليه كما حدث مع الصين؟
الثقافة العربية ثقافة اختلاط وتعدد، مثل اللغة العربية تمامًا، لكنها تأثرت سلبًا بعد قرون الانحسار ونهضة الغرب على أنقاضها. الغرب أعاد تعريف الثقافة العربية لنا، حتى بتنا ننظر لأنفسنا من منظوره. أصبحنا أكثر انغلاقًا، وهذا ضد طبيعتنا. حصرنا أنفسنا في زوايا ضيقة، وأحد أسباب ذلك التأثير الاستعماري الذي ربط الثقافة العربية بالجانب الديني وحده، فزادنا فرقة وانقسامًا.
من المؤسف أن يكون مجد العلاقات العربية الصينية قد مضى عليه أكثر من ألف عام، حين كانت الدولة الأموية والعباسية ترسل جيوشًا لدعم أباطرة الصين إذا تعرضوا لتمرد أو عدوان، وكان بلاط الخليفة يضم نخبة من أفضل فناني الصين، وكانت حركة التأثير والتأثر لا تتوقف. لم يكن الدين معيار الحكم على الآخر، بل إنسانيته ومعرفته ونفعه ودوره في إعمار الأرض. نحن أحوج ما نكون اليوم للعودة إلى هذا الانفتاح والقبول، والبعد عن التنميط والاتهام، والبحث مجددًا عن هويتنا الحقيقية.
لو قُدِّر لك أن تكتب رواية تدور أجواؤها في الصين كيف ستكون خطوطها العريضة؟
لو كتبت رواية عن الصين، سأجعلها على لسان رحَّالة عربي يلتقي بأسرة صينية عبر مئات السنين. نفس العائلة، تتغير وجوهها وأجيالها، لكن يبقى بينهم خيط واحد من الحكاية.
أو أكتبها على لسان ناصر الدين اليمني، الذي كان حاكمًا لمقاطعة يونان قبل 800 عام، ليحكي بنفسه كيف عاش بين ثقافتين، وكيف نظر كل طرف للآخر.
أو أرويها بصوت البحار الصيني تشينغ خه، وهو يعبر البحار قبل 700 عام ومعه آلاف التجار والمترجمين، يلتقي بالعرب في موانئهم ويعود محمَّلًا بما رآه.
ستكون الحكاية عن البشر، بحكم تخصصي في الدكتوراه في علم الأعراق البشرية، أصبحت مولعا بحكايات البشر، بتطورهم الثقافي، بالتفسير الثقافي لسلوكهم، لو كتبت رواية سيكون التاريخ مجرد حجة، أما الهدف فهو حكايات القلوب والوجوه في خلفية اختلاف الجغرافيا، وفي ظل حالة تواصل ثقافي وتأثير بين أسر صينية وعربية تنتج أجيالاً لا تعرف عن نفسها كثيراً لكن سلوكها يشي بالكثير من التاريخ والوقائع.