في سبيل فهم تحولات الأجيال
السبت / 6 / ربيع الأول / 1447 هـ - 22:27 - السبت 30 أغسطس 2025 22:27
تناولنا في الجزء الأول من هذه المقالة الموجبات التي تفرض وجود فهم منهجي للأجيال، وذلك حسب سياقها الثقافي، وحسب ظروف النشأة والتكوين التي تحدد دوافعها وأنماط سلوكها، ونحاول في هذه المقالة تتبع السمات العامة للأجيال؛ تركيزًا على الأجيال الحديثة، ومحاولة فهم منطلقات التفكير التي تنطلق منها، ومحددات توجهاتها، وظروف التكوين التي تجعلها تتصرف وتفكر بطريقة ما دون غيرها. ونؤكد هنا أن الفهم المنهجي لتحولات الأجيال لا يعني بأي شكل من الأشكال إطلاق الأحكام الأخلاقية، أو التعميمات، أو تقييم السلوك؛ لأن ممارسة مثل ذلك يعني أن هناك مقارنة قائمة، وأن هناك مرجعية أعلى لجيلٍ بعينه، والأصل أنه يجب أن تكون المحددات القيمية العامة للمجتمع هي المرجعية لكل الأجيال. والأصل في القدرة على فهم جيل ما هو محاولة تمثل ما يُعرف في علم الاجتماع بـ (المخيال السيوسيولوجي sociological imagination) أي أن نضع أنفسنا ونتمثل وضعية الجيل بالأدوات المتاحة له، ومجمل الظروف التي نشأ فيها، والمساحات الاجتماعية التي يتحرك فيها؛ لكي نستطيع حقًا معرفة منطلقات سلوكه ومحددات أفكاره واتجاهاته.
وإذا ما ركزنا التحليل على الأجيال الحديثة -وتحديدًا جيلي Generation Z) وألفا (Generation Alpha)- فإن ثمة مشتركات في السمات بين هذين الجيلين رغم وجود بعض الفوارق بينهما، ولكن هناك ظروف نشأة وتكوين متماثلة هي التي تشكل صيغة هذين الجيلين ومنها: النشوء في ظل الثورة الرقمية، والاحتكاك بمنتجات الثورة الصناعية الرابعة بمختلف أوجهها، وصولًا إلى عصر الذكاء الاصطناعي وفكرة (الوكيل Artificial intelligence agent) التي نعتقد أنها ستكون انعطافة تاريخية مهمة في تعامل الإنسان مع الآلة من ناحية، وفي تدبير شؤون حياته بشكل عام من ناحية أخرى. نشأ هذان الجيلان أيضًا في عصر انحسار ومحدودية الفرص الاقتصادية، وتحديدًا فرص الشغل وتكوين الثروة، وفي سياق تاريخي يتسم بعدم اليقين وتسارع الأحداث وتعقيدها سواء في السياسة أو الاقتصاد أو المجتمع، وكان جيلًا في نشأته شاهدًا على تغيرات هيكلية كبرى. هذه التغيرات قبل هذين الجيلين كانت تأخذ فترات زمنية طويلة للحدوث، ولكنهما عاصرا في نشأتهم آجالًا أقصر لدورة التغير التاريخي، وعايشا احتمالات كبرى لمسارات التاريخ عمومًا. وبالنسبة للأجيال الحديثة فقد شكل ظرف المواطنة والانفتاح العالمي صيغة جديدة لتكوينها؛ حيث لم يعد الفرد مجرد مستقبل للأخبار حول الأحداث، بل هو مشارك ومعبر فيها بالرأي والفكرة والاتجاه؛ فتجد ذلك الشاب ذا الأعوام الـ18 الذي يقطن قرية نائية في شمال العالم تتيح له الأدوات والمكن الرقمية اليوم أن يبدي رأيًا، ويشارك في حدث واقع في قرية تبعد عن آلاف الأميال، ويطالع على مدار الثانية مجريات الأحداث فيها. هذه المكن في ذاتها تصوغ أنماط الشخصية، وتحدد أبعاد التفكير والتدبير، وتوجه مسارات التصرف.
وإذا ما أردنا اختصار سمات الأجيال الحديثة -وتحديدًا تلك التي نشأت في أواخر التسعينيات لغاية يومنا- فيمكن أن نوجزها في ست سمات رئيسية: فهي أجيال انتقائية تلهمها فكرة الحضور العالمي، والانفتاح والمشاركة اللحظية في الأحداث، وترى في الغالب قيمتها من خلال هذا الحضور في صيغه الرقمية، وهي أجيال موردها الأساسي الذي تتمحور حياتها حوله هو (الانتباه Attention) حتى أصبح موردًا نادرًا في وقتنا الراهن، وهي أجيال مرهونة بالنتائج السريعة والملموسة والمباشرة، وانتقلت من أن تكون مجرد أجيال مستخدمة للأدوات الرقمية إلى أن تكون تلك الأدوات جزء أساس من حياتها (أصل ثابت). ففكرة الوكيل التي تحدثنا عنها جزء من هذه السمة، ومن قبل ذلك يسعنا ملاحظة علاقة هذه الأجيال بالاتصال اللحظية (نوموفوبيا). أما السمة السادسة فهي المرونة والذهاب بعيدًا عن القواعد، سواء كانت تلك القواعد متصلة بالهوية، أو أنماط العمل والتعلم، أو العلاقات الاجتماعية، أو القيود المؤسسية. ونعود للتأكيد هنا أن هذه السمات التي نعتقد بها ليست بالضرورة أن تكون سمات سلبية أو إيجابية، ولكن يحدد طبيعتها طبيعة فهمنا لها، وطبيعة الحوار القائم بين الأجيال على مستوى المجتمع، ومدى إدراك وتضمين السياسات العامة لهذا الفهم على مستوى الدولة.
تبقى الأسئلة الرئيسية اليوم أمام السياسات العامة هي: كيف يمكن تصميم سياسات عامة لإدماج جيل انتقائي رقمي محدود الانتباه لحظي يميل إلى المرونة والفردانية؟ وكيف يمكن تصميم سياسات عامة أكثر قبولًا وتفاعلًا وقناعة من قبل هذه الأجيال؟ والإجابة حسب تقديرنا تتمحور في العموم حول ثلاث مقاربات أساسية: الاستثمار في القدرات الرقمية لهذه الأجيال، وتحويل تلك القدرات إلى مورد وطني يعمل على تنشيط الاقتصاد الرقمي، ويعزز صناعة المحتوى، ويستثمر في بناء السمة الوطنية والقوة الناعمة، ويعزز المنتجات الرقمية التنافسية. أما المقاربة الثانية فهي في نهج المشاركة البناءة في السياسات العامة، وهذه المشاركة لا تقتصر على أخذ الرأي والملاحظات والأفكار على مشروعات جاهزة أو مقترحة، بل تتعدى ذلك إلى إتاحة فرص أكبر لهذه الأجيال لتشكيل عالمها، وأن ترى أفكارها الخالصة يؤخذ بها من مرحلة التخطيط إلى التنفيذ وجني العوائد، وأن تجد لها بصمة ملموسة في سياق تنمية مجتمعاتها ودولها. المقاربة الثالثة تتركز حول إدماج المرونة كمفهوم رئيسي في مختلف قطاعات السياسة العامة؛ المرونة في التعلم، والعمل، والنشاط الإنتاجي عمومًا شريطة أن نتبنى (المرونة المنتجة) التي تضمن أن تؤدي إلى نتائج عملية وتنافسية.
إن عدم إيجاد مساحة كافية من الأدوات والنهج لفهم تحولات الأجيال من شأنه أن ينتج هذا التصادم الذي نراه بينها، وفي تقدير كمشتغل في علم الاجتماع فإن الجزء الأكبر من المشكلات الاجتماعية التي تنشأ في المجتمعات التضامنية كحال مجتمعاتنا العربية والخليجية تحديدًا إنما هو ناشئ من فكرة تصادم الأجيال في الأفكار والطرائق والاتجاهات، وعدم وجود نهج لفهم تحولات الأجيال يعني كذلك إنتاج سياسات عامة أقل قبولًا وأكثر مقاومة من قبل المجتمع عمومًا والأجيال الحديثة على وجه الخصوص. ومن هنا فإن إدماج علوم النفس والاجتماع والأعصاب أصبح اليوم ليس ترفًا في منظومة صنع السياسة العامة، بل ضرورة قصوى تضمن تحقيق هذا الفهم، وانسجاما أكبر في التحول والتغيير الاجتماعي.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان