أعمدة

"الأسامي كلام"

نوافذ ...

حين وُلِدتُ عام 1974 قرر أبي أن يسميني باسم أبيه الذي رحل قبل مولدي بسنة ونيف، وهي مدة كانت كافية لأن تُنْجي أخي الأكبر سيف من مسؤولية اسم جده، فيما حملتُها أنا الظَلوم الجَهُول. في ذلك الوقت من القرن العشرين لم يكن مستحبًّا في عُمان أن يسمي الرجل ابنه على اسم أبيه ما دام على قيد الحياة. وأظن أن هذا التحفظ قد زال مع الوقت، فقد سمى أخي حمدان ابنه البكر على اسم أبيه وهو حي، وقرأت في كتاب «كلنا مريم» حديث محمد المرجبي عن فرحة والده عندما أسمى محمد ابنه باسم أبيه، وفرحته هو شخصيا بعد ذلك حين سمى ابناه علي ونورس مولوديهما باسمه. أما أنا فقد سجلت حكاية اسمي واحتجاجي على عدم إتاحة الحرية لي لاختياره في قصتي «على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء». 

لحسن الحظ كان اسم جدي من الأسماء المشهورة والمتقبَّلة في المجتمع، ولذا لم أتعرض لأي تنمر بسببه، باستثناء تحريفه من قبل الأستاذ نجاح -الذي درّسني في الصفوف الابتدائية الأولى- إلى سلمان بدلا من سليمان، وقد كان هذا أقرب إلى التدليل منه إلى التنمر. على النقيض مما عاناه الروائي صنع الله إبراهيم بسبب غرابة اسمه في المجتمع المصري، كما روى في أحد حواراته. وأكاد أتخيل نوعية التنمر: لماذا ترك والدك كل أسماء الدنيا واختار لك هذا الاسم الغريب؟! 

يروي صنع الله إبراهيم أن والده أنجبه وهو كبير يقترب من الستين، ويبدو أنه كان سعيدا بهذا المولود من زوجته الثانية التي تصغره بأكثر من ثلاثين عاما، رغم أنه سبق له الإنجاب من زوجته الأولى، فقرر أن يباركه باختيار اسمه من القرآن الكريم. فتح المصحف بصورة عشوائية على إحدى الصفحات فوقع على الآية الكريمة في سورة النمل: «صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ»، وهنا قرر تسمية مولوده بـ«صُنْع الله»، وقد توقفتُ كثيرًا أمام هذه الحكاية أتأملها، ولم أستطع منع نفسي من التساؤل: ماذا لو انفتحت الصفحة العشوائية على الآية: «تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ»! 

في الحقيقة، كلنا لا نختار أسماءنا في النهاية، وجميعنا يظل تحت رحمة مزاج الأب أو الأم لحظة الولادة أو أثناء الحمل، فإما أن يختارا اسما جميلا (أو مقبولًا في الأقل) لا يسبب أي متاعب مستقبلية للابن، وإما العكس. وليس صحيحًا أن أهالينا تعبوا كثيرا حتى وجدوا «أسامينا» كما تزعم السيدة فيروز والشاعر جوزيف حرب، والصحيح الوحيد في هذه الأغنية أن «الأسامي كلام»، وأن «عينينا هني أسامينا»، وإلا فما هو الأمر المتعِب مثلا في اختيار والدة أديبنا الكبير نجيب محفوظ هذا الاسم المركب لابنها الذي سيتسبب له في مشاكل مستقبلا؟ 

يروي رجاء النقاش في كتاب «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» أنه كان معتادا في حارات مصر في بداية القرن العشرين أن تلد الأمهات عن طريق قابِلة، لكي لا يضطررن للانكشاف على أطباء ذكور. لكن القابلة (أو «الداية») عجزت -في ذلك اليوم البعيد من عام 1911- عن إتمام المهمة بنجاح، وعانت الأم من صعوبات شديدة أثناء الوضع، حتى اضطرت القابلة للاستسلام والاستعانة بطبيب، فجاء الدكتور نجيب محفوظ طبيب النساء والولادة القبطي الشهير، وأنقذ الأم وأخرج إلى الحياة أهم أديب عربي في القرن العشرين. ومن شدة امتنان الأم لهذا الطبيب أطلقت اسمه كاملا على ابنها: «نجيب محفوظ»، ولم تكن تعلم أن هذا الاسم المركب سيتسبب في المستقبل في حرمان ابنها من فرصة إكمال دراساته العليا في فرنسا! 

يروي محفوظ للنقاش أنه بعد تخرجه في كلية الآداب والتحاقه بوظيفة في إدارة جامعة القاهرة، أعلنت الجامعة عن حاجتها لمجموعة من خريجي قسم الفلسفة للسفر إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية بمدرسة «الترومال» (وهي أشبه بدار العلوم بمصر)، وكان محفوظ أول المرشحين لهذه البعثة التي سيختارون لها 10 مبتعثين، ولفرط ثقته في الحصول عليها جهز ملابسه، وتوجه إلى أستاذ في كلية الآداب حصل على الدكتوراه من فرنسا ليسأله عن أنسب الأماكن للإقامة في باريس، وعن كيفية التعامل مع الفرنسيين. لكنه فوجئ بعد ذلك بخلوّ قائمة العشرة من اسمه! فكاد يجن. ولأن زميله عبدالرحمن هو ابن أخت مدير إدارة البعثات إبراهيم رمزي فقد وسّطه ليفهم ما جرى. توجها إليه وسأله عبدالرحمن: لماذا أُقصِيَ نجيب محفوظ من القائمة رغم أنه المرشح الأول؟ أجاب رمزي أن «هناك اثنين من الأقباط في القائمة وموصى عليهما من شخصيات مهمة، وبالتالي لا يمكن أن نضع في القائمة 3 من الأقباط»! وعندما أكد عبدالرحمن لخاله أن نجيب محفوظ مسلم، علت الدهشة وجه إبراهيم رمزي، وكان رجلًا خفيف الظل وابن نكتة، فنظر إلى نجيب وقال له بالحرف: «يلعن أبو تأليف أمك. فيه واحدة مسلمة تسمى ابنها نجيب محفوظ»! 

لكن الحياة انتقمت للأديب الكبير في النهاية من صاحب الاسم. فمن ذا يعرف اليوم ذلك الطبيب الذي محاه الأديب تمامًا من الذاكرة الجمعية، أو يكاد، رغم أنه كان شهيرًا عندئذ؟! وهكذا فإن الاسم لا يخلد صاحبه بقدر ما يخلده ما سيحققه هو بهذا الاسم. 

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني