الكم..
الجمعة / 5 / ربيع الأول / 1447 هـ - 19:26 - الجمعة 29 أغسطس 2025 19:26
يستحوذ التقدير الكمي في وعي الناس، وفي ثقافتهم، وفي ذاكرتهم الاجتماعية، على مساحة واسعة من الاهتمام، ذلك أن صورة الحياة في عموميتها قائمة على الكم أكثر منه الكيف. وإن كان الكيف هو الأكثر انضباطًا، والأكثر مهنية، والأكثر تقانة، إلا أن الصورة المستجلبة في الذاكرة تتجه دائمًا نحو الكم، على اعتبار أنه يلبي الرغبات أكثر ويوصلها إلى حالة من الإشباعات العاطفية. ولذلك، عندما يتصدر الكيف على الكم في مواقف معينة، فلابد عندئذ أن هناك شيئًا ما غير طبيعي يستحوذ على المشهد العام ويلفت انتباه من يراقب ويقارن، وكأن الحالة تعيش تحولًا مفاهيميًا طارئًا. وقد وردت في نصوص القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلى الكم من الذين لا يؤمنون، وإلى الكافرين، وإلى الفاسقين، مقارنة بالمؤمنين والمصدقين. وفي الحياة العامة، تطفو الأكثرية على الرؤية قولًا وعملًا وممارسة. وما صورة «عقلية القطيع» التي تُعد من أهم النظريات الإعلامية إلا واحدة من المفاهيم المستحوذة على الذاكرة الجمعية في كثير من تفاصيل حياة الناس، «ومن عنده مال إليه الناس قد مالوا»، كما قال العقاد -رحمة الله عليه- وقد جاء في الأثر أيضًا أن «الكثرة تغلب الشجاعة» و«الذئب بين كلبين ذليل».
ولعل مشكلة الكيف هي توغل المفهوم النسبي في تأثيره على الواقع، بمعنى أن نسبة قليلة من الناس تتجاوز المفهوم الكمي، بينما الكم يحضر بتأثيره المباشر في تعديل ترجيحات الكفة في اللحظة نفسها. ولذلك نحضر في حالات كثيرة صورًا من الجدل في المحال التجارية بين المشتري والبائع، فالأول «المشتري» يسعى إلى تحقيق الكم، بغض النظر عن المستوى الجيد أو الرديء للبضاعة، وهنا أتحدث عن الغالبية من المتسوقين، والثاني «التاجر» يهمه أن يسوق الكم من البضاعة، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يموضع خسارة دائمة للكيف، في بضاعته الجيدة، والتي يريد لها أن تأخذ طريقها نحو المستهلك؛ لأن هناك شريحة من المستهلكين يهمهم الكيف ويسعون إلى البحث عنه، ولو كلفهم ذلك الكثير من العناء، لإيمانهم بأن السلعة الجيدة قادرة على العطاء والبقاء زمنًا مقدرًا قد ينسي تكلفة السلعة ذاتها مع مرور الزمن.
ولكن يبقى هؤلاء قلة، والأكثرية الغالبة هي من تسعى إلى الكم الذي يلبي الحالة الإشباعية للعاطفة.
ولذلك تعمل الشركات المنتجة اليوم على تقديم سلع ليست على درجة كبيرة من الجودة، ولكنها تلبي الرغبة الجامعة لدى المستهلك، فتوقعه في مطب الحاجة الدائمة إلى السلعة ذاتها غير المعمرة.
ومن هنا تنشط تجارة التجزئة المعنونة بـ«كل شيء بريال»، وربما أقل، حيث يغري هذا العنوان شريحة كبيرة من المتسوقين، بغض النظر عن إمكانياتهم المادية.
فهناك من الناس لديهم القدرة على شراء الجيد والممتاز من السلع المعروضة بهذا السعر أعلاه في محلات يُطلق عليها محلات «البراندات» ذات العلامات التجارية المعروفة، ومع ذلك يغريهم الكم، فيتسوقون من محلات ذات العنوان أعلاه، خاصة عند استحضارهم فهم الحالة الاستهلاكية غير المعمرة للسلع، مهما كانت جودتها. فالصورة الكمية، على ما يبدو، حالة شعورية أكثر منها حالة واعية، تقف عند مستوى معين يتيح لحاملها اتخاذ قرار التمييز بين الجيد والرديء، مع التأكيد أن الكم ليس كله رديء.
والفهم ذاته يمتد إلى ما يسمى جودة الحياة، وجودة التعليم، وجودة الاختيار والانتقاء، وهذه الصورة لا تتموضع إلا عند فئة قليلة من فئات المجتمع، وذلك لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها الحالة المادية «الخصبة» ومستوى الوعي الذي يفرزه البعد المعرفي في مفهومي الكم والكيف.
فهناك أحيانًا من يملك المال الذي يتيح له مجموعة من الخيارات والانتقاءات فيما يود، ولكن يخونه الوعي، فيسقط في مستنقع الكم، وأصفه بالمستنقع؛ لأن الكم حالة ممزوجة من الجيد والرديء، ولذلك يحتاج إلى تحقق معرفي واضح قبل الدخول في معتركه.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عُماني