العرب والعالم

بعد 8 أشهر على "السور الحديدي" .. ..مخيّمات شمال الضفة ترفض قيود الاحتلال

 

غزة -«عُمان»- بهاء طباسي

لم تستفق عائلة «أبو خالد» بعد من صدمة فقدان بيتها في مخيم جنين، الذي سوّته جرافات الاحتلال بالأرض خلال عملية «السور الحديدي» في يناير الماضي، إلا على شروط إسرائيلية «مجحفة» للعودة.
كان البيت على بساطته ملاذًا دافئًا يضم الأب والأم وأربعة أبناء، لكن الأسرة وجدت نفسها فجأة وسط العراء، يحملون ما تبقى من أثاث متناثر وصور عائلية متفحمة. لم يكن الخراب الذي خلفته الآليات الإسرائيلية مجرد دمار مادي، بل كان اقتلاعًا لذاكرة كاملة من الحي وأزقته.
حين أعلن الاحتلال نيته الانسحاب المشروط من المخيم، حملت العائلة أملًا صغيرًا بالعودة إلى ما تبقى من بيوتهم. لكن الصدمة عادت أقسى عندما أبلغوا أن عودتهم مشروطة «بعدم إعادة البناء» والاكتفاء بالإقامة في العراء أو تحت أسقف مؤقتة. يقول أبو خالد: «كأنهم يريدون أن يبقى الدمار شاهدًا أبديًا على قوتهم، وأن يظلّ المخيم منقوص الحياة».
الأم التي فقدت مطبخها وغرفة أطفالها لم تجد ما تقوله سوى دموعها، وهي تشير إلى الركام وتقول: «هذا ليس حجرًا فقط، هذا عمر كامل سرقوه». أما أبناؤها فيتنقلون بين منازل أقاربهم في المدينة، غير قادرين على استيعاب فكرة أن بيتهم صار «ممنوع البناء» حتى إشعار آخر.
هذه القصة مرآة لآلاف العائلات التي وجدت نفسها أمام خيارين أحلاهما مرّ : العودة إلى الخراب دون حق في الترميم، أو البقاء مشردين في نزوح مفتوح لا نهاية له.
تغيير الديموغرافية
بعد اندلاع عملية «السور الحديدي» التي أطلقها جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل أكثر من ثمانية أشهر، اقتحمت القوات الإسرائيلية بشكل واسع عددا من مخيمات شمال الضفة الغربية، وعلى رأسها: جنين، طولكرم، ومخيم نور شمس. وقد حوّل الاحتلال تلك المخيمات إلى ساحات مواجهة يومية، استُخدمت فيها الطائرات المسيّرة والجرافات العسكرية التي سوّت عشرات المنازل والبنى التحتية بالأرض.
الاحتلال لم يكتف بالاقتحامات السريعة، بل فرض احتلالا فعليًا على هذه المخيمات، عبر إقامة نقاط عسكرية دائمة وحصار خانق، ومنع الأهالي من الدخول أو الخروج لفترات طويلة. هذا التواجد العسكري المباشر جعل المخيمات وكأنها «منطقة عسكرية مغلقة» داخل الضفة، مما أدى إلى نزوح آلاف العائلات تحت نيران القصف والتجريف.
وبمرور الوقت، اتضح أن الاحتلال أراد من هذه السيطرة ليس فقط «ضرب المقاومة»، كما أعلن، بل إعادة تشكيل الواقع الأمني والاجتماعي في المخيمات. إذ صارت المخيمات هدفًا لإجراءات هندسة سكانية وديموغرافية، تُذكر الفلسطينيين بتجارب سابقة للاحتلال في قطاع غزة وجنوب لبنان.
الاحتلال وضع لائحة شروط تضمنت منع إعادة بناء المنازل المهدمة، وإجراء مسح أمني للعائدين مع منع عودة كل من له «نشاط سياسي أو أمني سابق» بما في ذلك الأسرى المحررون، إضافة إلى حظر أي نشاط سياسي حتى الذي تنظمه فصائل منظمة التحرير نفسها.
كما اشترط إقامة مراكز شرطية فلسطينية داخل المخيمات الثلاثة: جنين وطولكرم ونور شمس، بدلًا من الاكتفاء بالمراكز الرئيسة في المدن، بدعوى أنها مناطق مصنفة «أ» وفق اتفاق أوسلو.
في مواجهة ذلك، برز الموقف الفلسطيني الرافض لهذه الشروط باعتبارها ليست مجرد بنود إدارية، بل «مشروع تصفوي» للقضية الفلسطينية من بوابة المخيمات، و«تكريس لمشروع التهجير» في ظل فضاء منزوع السياسية ومكبل بالإجراءات الأمنية.
الموقف الفلسطيني
أنور حمام وكيل دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، أكد أن هذه الاشتراطات «لا يمكن القبول بها»، معتبرًا أنها محاولة واضحة «لمنع أي نشاط سياسي في المخيمات».
ويضيف: «من حق اللاجئين الفلسطينيين أن يعبروا عن آرائهم وطموحاتهم، سواء في المخيمات أو خارجها، وهذا حق لا يمكن مصادرته».
ويشير حمام، في تصريح لـ«عُمان»، إلى أن أحد أخطر البنود هو السعي الإسرائيلي لإلغاء عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا» داخل المخيمات، وهو ما يراه «جزءًا من خطة أوسع لتصفية قضية اللاجئين من أساسها».
ويؤكد أن منظمة التحرير ترفض هذه الشروط رفضًا قاطعًا، لأنها «تسلب اللاجئين أهم أدوات صمودهم وتحوّل المخيمات إلى مجرد أماكن خالية من الحياة السياسية والاجتماعية».
ويحذر من أن تمرير هذه الشروط سيشكل سابقة خطيرة، إذ ستمتد السياسة ذاتها إلى باقي المدن والقرى الفلسطينية، وهو ما يعني «تكريس مشروع التهجير»، حسب تعبيره.
وجوه نازحة
في خيمة صغيرة قرب طولكرم، جلست الحاجة أم سامي تحت حرّ الصيف اللاهب، تتحدث عن معاناتها مع النزوح. بيتها في مخيم نور شمس كان من البيوت التي نسفتها القذائف، ولم يتبق منه سوى جدار واحد مائل. تقول خلال حديثها لـ«عُمان» وهي تمسح جبينها: «لم يبق لنا مأوى سوى هذه الخيمة، والآن يقولون ارجعوا ولكن لا تعمّروا! كيف نعيش بين الركام؟ وكيف ينام الأطفال على حجر محطّم؟».
ابنها سامي، الذي اعتقل سابقًا عدة سنوات، مُنع من العودة وفقًا للمسح الأمني الإسرائيلي. «يريدون أن يعاقبونا مرتين؛ مرة بالاعتقال، ومرة بالحرمان من بيتنا»، يضيف بمرارة.
الأصعب في شهادتها كان حديثها عن شعور «الموت البطيء». فهي ترى أن الهدف من الشروط هو دفع العائلات إلى مغادرة المخيم نهائيًا بحثًا عن حياة طبيعية، «لكننا لن نغادر.. هنا تربينا وهنا سنبقى».
أما ابنتها الشابة مريم، التي تدرس في الجامعة، فتوضح خلال حديثها لـ«عُمان»: «أشعر أنني رهينة خيارات إسرائيلية.. بين التشرد والخراب. حتى حقي في مستقبل أكاديمي صار مهددًا لأنني بلا بيت».
مخطط أكبر
بسام الصالحي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، اعتبر أن هذه الاشتراطات «جزء من مخطط ضمّ الأراضي الفلسطينية وإضعاف إمكانية قيام دولة فلسطينية».
وأوضح أن أي جهة فلسطينية «غير مخولة أصلًا بالموافقة على مثل هذه الشروط»، لأنها تمسّ جوهر القضية.
ويضيف الصالحي أن إعادة هيكلة مخيمات اللاجئين جغرافيًا، ومنع إعادة البناء، يترافقان مع «محاولة حثيثة لتغيير الديموغرافيا»، بحيث يُدفع المواطنون إلى مغادرة البلاد بحثًا عن مأوى بديل.
ويحذر من أن الهدف الإسرائيلي يتجاوز المخيمات الثلاثة إلى عموم الضفة الغربية، وهو ما يكشف «الوجه الحقيقي لمشروع التهجير».
ويختم بالقول: «المخيمات هي رمزية اللجوء منذ 77 عامًا، وأي مساس بها هو مساس بحق العودة نفسه».