ثقافة

فيصل دراج .. كأن تكون فلسطينيا

زياد خداش

 

زرته لثلاث ساعات قبل أسابيع في بيته بمنطقة الصويفية بعمّان، برفقة صديقين من فلسطين، أحدهما فنان تشكيلي شاب العزيز عاطف، والآخر كاتب قصة يحيى الصافي، رؤية فيصل دراج عن قرب، حلم قديم طالما راودني وأنا ألتهم كتبه النقدية، ومقالاته في مجلة الكرمل أو أستعين ببعض أفكارها لتوضيح مسألة نقدية لطلابي، أو في حديث عام بجلسة مع أدباء، دراج ابن القرية الفلسطينية المهجرة (الجاعونة) في الجليل الأعلى يقترب من التسعين لكن ذاكرته قوية وابتسامته ساحرة، أما مبادئه فلم يغيرها، وتبقى عفويته وصدقه مع ذاته، هما ما يميزان هذا العملاق الذي كتب ما اعتقده بجرأة ومثابرة. 

أن تجلس مع فيصل لثلاث ساعات بعد أن تكون قد قرأت مذكراته التي صدرت العام الماضي بعنوان ( كأن تكون فلسطينيا)، فهذه فرصة للأسئلة والنقاش في تفاصيل استوقفتني مع صديقيّ هنا وهناك. 

أود أن أعرف يا أستاذنا الكبير عن أشياء لم تذكرها في مذكراتك ظلت عالقة في ذهنك الطفل وأنت تغادر الجاعونة؟ 

(بيتنا كان كبيرا وجديدا، بُني في أواخر الأربعينيات. سكنّاه سنة أو سنتين، ثم هجمت العاصفة السوداء. وآخر مشهد رأيته وأنا أغادر بلادي، رجل أعمى يقف أمام بيته رافضا الخروج. رأيته يلوّح لي، ثم غاب عن عيني كل شيء)». سأله الفنان العزيز عاطف: «لماذا لم يغادر الأعمى، يا عم فيصل؟». 

لم يجب فيصل، لكننا أحسسنا أنه كان يريد أن يجيب: لأنه يرى. 

سادت لحظات من الصمت بيننا، كنا متأثرين بدموع صغيرة تسربت من عينيّ الناقد الكبير الذي طبقت شهرته الآفاق، هربنا به وهرب بنا إلى موضوعات أخرى مثل علاقته مع محمود درويش، ابتسم فيصل: وأسهب في الحديث عن محمود: «بعد استقالة أنيس صائغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني، عين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محمود درويش خلفا له، محمود عاملني بجفاف في البداية ولم أكن اعرف لماذا، استقبلني بنبرة محايدة تضع مسافة واضحة بينه وبين الواقف في غرفته، خرجت من عنده محبطا وسألت نفسي: هل هذه هي أصول الإدارة الناجحة؟ أم أن شهرة الشاعر اقترحت عليه حواجز شديدة الحراسة؟، قال لي مرة وهو يرفع مادة لي في وجهي: عليك أن تتعلم أصول الكتابة قبل أن تستعرض النظريات الفلسفية، اتصل بي مرة وكان الطقس قائظا، وقال ساخرا: لماذا لا تحب قهوة محمود درويش، كان من عادته أن يبتر كلامه وحين استوضحته أجاب: حس الفكاهة ضروري للحياة، وحين عاتبته على جفافه أجاب: كي أطمئن إلى إنسان يجب أن أعرفه؟. فيما بعد صرنا قريبين من بعضنا البعض وصرنا أصدقاء». 

ساهم الفنان الصديق خفيف الظل، العزيز عاطف، بحصته من تخفيف التوتر، قائلا: «أتعرف يا دكتور فيصل كم نحبك في فلسطين؟». أجاب فيصل: «لا والله، لا أعرف». فواصل العزيز: «أنت، والله، أهم شخصية ثقافية وطنية في فلسطين. نحبك ونفخر بك ونحترمك». هنا لمعت عينا فيصل، وابتسمت زوجته. انطلقنا إلى موضوعات كثيرة، كشف فيها فيصل أسرارا عن حقيقة شخصيات ثقافية تعيش بيننا، وأسقط كثيرا من الأقنعة، وقال كلاما كثيرا وجميلا عن حبه لعبد الرحيم الشيخ، وحسين البرغوثي، ويوسف الخطيب، وآخرين. ساعتان من الضحك، والفكر، والدموع، والحب، والذكريات، ودمشق، والجاعونة، وعمّان، ونابلس، وبيروت، ومركز الأبحاث، وحبيب قلب فيصل (أنيس صائغ)، ومجلتي الطريق والكرمل. أهديت فيصل زعترا بلديا من جبال رام الله، وأهداني في المقابل أجمل ابتسامة لامعة في العالم. ونحن نغادر، عند الباب تحديدا، كانت فلسطين كلها تقول لنا: «سلّموا على فلسطين». هبطنا الدرج ثلاثتنا صامتين، ركبنا سيارة الأوبر، وطيلة الطريق من الصويفية حتى اللويبدة، لم تخرج من أفواهنا سوى بضع كلمات على شكل سؤال: لماذا لم يخرج الأعمى من الجاعونة؟ وكان الكون كله يردّد: «لأنه كان شايف منيح».