عمان الثقافي

نحو تخليده في برنامج مستدام مشروع السلطان تيمور بن فيصل لنشر الشعر العماني

حسن المطروشي

 

تمثل سيرة السلطان تيمور بن فيصل البوسعيدي (حكم:1913 ـ 1932م) نموذج الحاكم المتحضر المستنير الذي يمتلك رؤية وطنية نهضوية شاملة. وقد أسهمت دراسته في الهند، وزياراته إلى مختلف دول العالم في تعميق حصيلته المعرفية وسعة اطلاعه على التحولات الحضارية والعلمية في تلك الدول، ما جعله يتطلع إلى بناء وطن حديث، إذ نجد ذلك في إشارته إلى (وطن النشأة الجديدة)، في مقدمته الضافية لديوان أبي الصوفي سعيد بن مسلم المجيزي، الذي تبنى طباعته في اليابان عام 1937م. كما تجلى ذلك بوضوح في التحديثات الكبيرة التي أدخلها في نظام الدولة في المجالات القضائية والعسكرية والاقتصادية والإدارية والتعليمية، إذ شهد عصره تأسيس أول مدرسة نظامية في تاريخ عمان، وهي المدرسة السعيدية التي حضر مراسم افتتاحها شخصيا. يقول السلطان تيمور في مقدمة الديوان المذكور عن أسفاره: 'سافرت من مسقط رأس وطني مسكت (مسقط) عمان وانتهى بي السير إلى الشرق الأقصى واستتب لي القطون في المملكة الجابانية بعد أسفاري في الهند في الجهات الأربع، وقدر الله لي السفر إلى اليورب (أوروربا) ورزقني حج بيته الحرام، وزرت الصين وبرماء وملايو'. ومن الدول الأوروبية التي زاها المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا. كما زار عدة دول عربية مثل العراق ومصر.

ويتضح من سيرته الكريمة أنه كان لديه رغبة في حفظ المنجز الثقافي العماني وطباعته ونشره، لا سيما المنجز الشعري الكبير الذي تختزنه المدونة الأدبية العمانية. وحين نتأمل المقدمة التي وضعها لديوان أبي الصوفي المجيزي، نكتشف أنه كان لديه (مشروع) كامل للنهوض بها الجانب، وكان يمتلك رؤية طموحة لطباعة الشعر العماني وحفظه وتوثيقه وتعريف الأجيال به، وذلك تقديرا منه لهذا المنجز العظيم الذي اطلع على نفائسه ووقف على كنوزه وسبر أغواره، فتحدث عنه بلغة العارف. ونحن هنا سنتوقف عند هذه المقدمة المهمة التي تتوج بها الديوان، لنتعرف على الجانب الشعري لدى السلطان تمور بن فيصل وولعه به وتفاصيل مشروعه الشعري الوطني الذي أشار إليه صراحة حينما دعا الموسرين وأصحاب الأموال إلى الالتفات إلى النتاج الشعري العماني وطرح فكرة دعم طباعة الدواوين العمانية متطلعا إلى استجابة أصحاب رؤوس الأموال لدعوته ولو بعد حين، فقال: 'ليكونوا أكبر مساعد في ما نبهت عنه في مشروعي'. لقد عشق السلطان تيمور بن فيصل الشعر وكان يقوله وفقا لما أثبتت المصادر، كما كان يكرم الأحياء من الشعراء ويحتفي بالراحلين منهم. وفي هذا السياق يقول السلطان في مقدمته: 'لولوعي في أغلب الأحيان قراءة الأشعار واستماعها ممن يقرؤها من المسامرين'. ويقول سليمان بن خلف الخروصي في كتابه (ملامح من التاريخ العماني): 'والسلطان تيمور بن فيصل شاعر مجيد إذا سنح خاطره شيء ما تراه يرتجل البيت أو البيتين أو الثلاثة، وهو حافظ لأشعار العرب وبالأخص أشعار أبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمداني وابن المعتز العباسي والمعز الفاطمي وغيرهم من أمراء الشعراء، ويستشهد في رسائله بالأشعار السائرة'. وتشير المصادر إلى أن السلطان تيمور كثيرا ما يقول بعض الأبيات ويطلب من الشاعر أبي الصوفي أن يجيزها فيجيبه ملبيا، ومن ذلك قوله: سناك أبهجني في الشرق يا قمر هلّا مررت على من زانه الحور فأوعز إلى أبي الصوفي المجيزي بإجازة البيت بما يتفق مع مضمونه، فكتب أبو الصوفي قصيدة طويلة يقول في مطلعها: سناك أبهجني في الشرق يا قمر هلّا مررت على من زانه الحور إني أراك بنور الحسن مستترا هل أنت من نور ذاك الحسن مستتر؟ لقد كان السلطان تيمور، رحمه الله، مقدرا للشعراء ومقرّبا منهم ومحبوبا لديهم، وقد مدحه أبرز شعراء عصره مثل محمد ابن شيخان السالمي وأبي الصوفي سعيد بن مسلم المجيزي والسيد سيف بن يعرب البوسعيدي والشيح محمد بن سيف السعدي والمر بن سالم الحضرمي وغيرهم. وعرف عنه أنه استقدم الشاعر والسياسي الليبي سليمان باشا الباروني، الذي منعه الاحتلال الإيطالي من دخول بلاده، فمكث في عمان 16 عاما. ويعد ديوان المجيزي أول نواة لهذا المشروع الشعري الوطني الذي تبناه ودعا إليه السلطان تيمور بن فيصل، رحمه الله. وقد تضمنت المقدمة التي خطها السلطان بقلمه لهذا الديوان العديد من الإشارات والأفكار والمحاور التي تجسد في مجملها مشروعا أدبيا متكاملا يهدف إلى الاعتناء بالشعر العماني. في هذه المقدمة يؤكد السلطان على: 'حث رجال الوطن الكبار الأغنياء الميسرين الذين ينفقون أموالهم على غير معنى في هذا العصر للضيوف والضيافات التافهة في غير مواجيبها ولمجالس العزاء'. إن هذا يجسد رؤية السلطان رحمه الله في إيجاد مشروع وطني مستدام من خلال طرح الأفكار التي من شأنها توفير الدعم المالي اللازم للبدء في المشروع وضمان استمراره واستدامته، عبر تحديد مصادر التمويل في المقام الأول. وتتضح أهداف السلطان من خلال ذلك المشورع الرائد في حينه إلى حفظ المنجز الشعر العماني وصونه من الضياع والتلف إلى جانب تعريف المجتمع العماني بأدبائه وشعرائه، بالإضافة إلى نشر هذا المنجز خارج البلاد. يقول رحمه الله: 'لو ثمن من تلك الأموال تتجمع بالاشتراك وتطبع بها دواوين الشعراء العمانية القدماء والحديثين لهبوا أهل المملكة من أربع جهات بكل اشتياق لاقتناء شعر شعرائهم وأدباء بلادهم ولتناقلتها الأيادي في الأقطار والبلدان المجاورة'. ويرى أن ذلك أفضل من أن: 'يموت الشاعر العماني ويموت شعره وذكره معه'! وفي لفتة واعية منه يشير السلطان إلى أهمية المخطوط الشعري وضرورة الحفاظ عليه وطباعته ونشره عبر الوسائل الحديثة المتاحة. في حين يأسف للحال التي وصلت إليها تلك المخطوطات من سوء الحفظ لدى مالكيها أو ما انتقل إلى دول الخارج. كما لا يخفي السلطان استغرابه وحسرته حين يشير أنه لو سئل أحد مالكي هذه المخطوطات عن بيت مما تضمنته فإنه سيجيب بالنفي، في الوقت الذي سيكون حافظا لأشعار غير العمانيين أمثال المتنبي أو عنتر أو أبو نواس أو ابن المقرب: 'كأنه لا يعمل أن في شعر شعراء وطنه ما يغنيه ويكفيه وهو ملفوف بين أثوابه في دسيس له في بيته حتى يستولي عليه الدهر وتأكله الرمة ويكون خبر كان ترويه الشيوبة والعجائز لأبناء وطن النشأة الجديدة'. وإذ يأسف على ضياع هذه المخطوطات وتلفها وسوء حفظها وهجرتها أيضا، فإنه يرى أنها في الخارج ستكون محل العناية والاهتمام نظرا لدراية الأجانب بأهمية ما تحتويه هذه المخطوطات من الكنوز الأدبية: 'وإني أعلم أن هناك كتب أشعار يمكن طبعها ونشرها ولو أن كثيرا من الكتب العمانية ذهبت وأصبحت أثرا بعد عين في أيادي الأجانب ولكن لا شك أنها محفوظة بكل احترام في خزائن مكاتبهم لعلمهم بها أنها من أثمن الأشياء وعزازة وجودها'. لذا فإنه يهيب بالأدباء العمانيين والأعيان وأصحاب رؤوس الأموال في البلاد أن يولوا هذا المشروع العناية الذي يستحق، وكرر ذلك في أكثر من موضع في المقدمة مناديا: 'أيها الأدباء المسكتية العمانية، أيها العلماء الأفاضل داخل القطر نبهوا القادة من لهم شعور لهذا الذكر الحميد واطلبوا من الرؤساء والأغنياء طبع الدواوين الشعرية'. ومن الأفكار الجريئة التي تضمنتها الكلمة السلطانية في ديوان المجيزي والتي توقع أنها ستثير حنق البعض قائلا: 'وإني أعلم لتغيظ بعض من كلماتي في هذه المقدمة للقسم (الجامدون) كما يسمونهم في هذا العصر'، هي أنه رأى ضرورة الاهتمام بدواوين الشعر وليس فقط الكتب الدينية، مشيرا إلى أن البعض يهتم فقط ببعض الكتب الدينية والمذهبية وأن: 'ما عدا هذا من الدواوين فهي منبوذة لا قيمة لها. فلا شك أننا مفتقرين إلى الكتب المذهبية والأصول، ولكن الذي طبع بها كفاية'! والذي يعرف السياق التاريخي والاجتماعي الذي قيلت فيه هذه العبارة يدرك مدى شجاعة قائلها وجرأته، بل ورؤيته المنفتحة في تلك المرحلة المبكرة. وينفتح مشروع السلطان تيمور باتساع رؤيته المتحضرة الشاملة حين يدعو إلى الاهتمام بهذا الشعر باعتباره مشتركا عمانيا وطنيا، بمنأى عن كل الاعتبارات القبلية والعرقية والطائفية وغيرها. إن الرؤية هي رؤية وطن يمثله الشعر وتجسده الهوية الثقافية الموحدة، فالثقافة هي خط الدفاع الأول عن كيان الأوطان والمعبر عن هويتها والحامي لوحدتها والحامي لنسيجها الكلي في إطار الوطن الواحد بكل مكوناته وتعدد أنساقها. لذا جاءت دعوة السلطان جلية واضحة: 'ولا تقولوا الشاعر الفلاني أكثر في شعره المديح أو هذا من تلك البلدة أو من تلك القبيلة أو في عصر ذلك السلطان أو في زمان ذلك الإمام... انبذوا هذه الكلمات وراء الظهور واقتدوا بغيركم من الأمم المنتبهة للحياة في هذا الزمان'. إننا نستطيع القول بكل ثقة أن السلطان تيمور بن فيصل، طيب الله ثراه، كان لديه رؤية واضحة لتأسيس مشروع وطني مستدام لدعم الحراك الشعري العماني وصون المنجز الشعري في عمان والاهتمام بالشعراء العمانيين من الأحياء والراحلين من خلال طباعة أعمالهم ونشرها وتعريف المجتمع بهم وإيصال صوتهم إلى خارج حدود الوطن. وقت ثبت من خلال وثيقة المقدمة التي توج بها ديوان المجيزي، أنه قد وضع الخطة المالية للمشروع، كما وضع أهدافه ورسم ملامحه، وحدد مبادئه التي تتمثل في تبني كل المنتج الشعري العماني دون إقصاء طرف أو استبعاد تيار أو منهج. وإننا على ضوء ذلك نقترح أن تقوم المؤسسات المعنية في البلاد بتأسيس جائزة شعرية أو برنامج مستدام أو مؤسسة تعنى بخدمة الشعر العماني والعربي، تحمل اسم هذا السلطان الذي أخلص للشعر ودعم الشعراء وأسهم في تأسيس مشروع شعري وطني رائد وسابق لزمانه، بات جديرا بتخليده وإحيائه في نهضة عمان المتجددة.

* حسن المطروشي شاعر عماني