كي لا ننسى دور إسرائيل في الشرق الأوسط..
الثلاثاء / 2 / ربيع الأول / 1447 هـ - 21:23 - الثلاثاء 26 أغسطس 2025 21:23
تعالت في الفترة الأخيرة صيحات بعض الإعلاميين عبر أجهزة الإعلام والمدونين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، التي تعلن صراحةً أن ما يجري الآن من إبادة جماعية في فلسطين إنما هو نتاج لأحداث السابع من أكتوبر التي قامت بها المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الإسرائيلي، وهي المقاومة التي أصبحت مختزلة الآن في صورة حماس المصنفة كمنظمة إرهابية. وعلى هذا يتم ترويج الأكذوبة التي يرددها بعض الغافلين بالقول بأنه لولا أحداث السابع من أكتوبر ما جرى كل هذا الذي يجري في فلسطين، ومن ثم ينبغي الاستسلام لشروط الكيان وهي القضاء التام على حماس وتسليم سلاحها (رغم أنه سلاح بدائي!)، ونفي قادتها خارج فلسطين؛ وبذلك يتم الترويج لروح الاستسلام لا المقاومة، وترديد القول: كفى.. كفى ما جرى، يجب قبول الأمر الواقع! ولكن هؤلاء الذين يروجون لهذا القول يجهلون أو يتناسون أن ما يحدث الآن ليس وليد هذه الأحداث، وإنما هو نتاج لمشروع صهيوني قديم نشأ مع نشأة الصهيونية السياسية نفسها التي أعلنت مؤخرًا على يد رئيس حكومتها عن حُلم (أو مخطط) دولة إسرائيل الكبرى في منطقة الشرق الأوسط! وفي مواجهة هذه المقولة الكاذبة نسوق الحقائق الأساسية التالية التي ذكرها الفيلسوف روجيه جارودي في كتابه الجامع المترجم إلى العربية بعنوان «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» (الذي أشرت إليه في غير مقال بهذه الجريدة الرصينة):
تقوم الصهيونية السياسية- كما يقول جارودي- على إحلال دولة إسرائيل محل إله إسرائيل. ولكن دولة إسرائيل هذه ليست سوى حاملة طائرات نووية حصينة تابعة لسيدة العالم مؤقتًا: الولايات المتحدة الأمريكية (ص. 16). ومن هنا ينبغي أن نفهم مطامع الولايات المتحدة في الهيمنة على المنطقة باعتبارها مصدرًا هائلًا لإنتاج النفط، وهي مطامع معلنة على لسان ساستها ووزراء خارجيتها منذ سنة 1973. ومع ذلك، فإننا ينبغي ألا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد ورثت عن بريطانيا تبعية دولة إسرائيل كذراع لها في المنطقة، وهذا يعني أنها ورثت عنها السياسات نفسها إزاء الشرق الأوسط. ذلك أن أطماع الغرب في نفط الشرق متأصلة في نشأة المشروع الصهيوني نفسه؛ ولذلك فإن جارودي- في السياق السابق نفسه- يذكر تصريحًا موثقًّا للورد بلفور الذي صرَّح وهو يمنح الصهاينة بلدًا لا يملكه قائلًا: «لا تهم كثيرًا طبيعة النظام الذي يتعين علينا إقامته لكي نحتفظ بنفط الشرق الأوسط. فالأمر الأساسي هو أن يظل هذا النفط في متناول يدنا». فما بالك أن النفط والغاز قد تدفق بعد ذلك بغزارة، كما أن منطقة الشرق الأوسط قد أصبحت ذات أهمية جيوسياسية لإحكام السيطرة على العالم ومواجهة تمدد إمبراطوريات عظمى مثل روسيا والصين وإيران إلى حد ما. وهكذا يصبح من الواضح تمامًا أن دولة إسرائيل ليست سوى أداة لتأسيس مشروع استعماري يهيمن على المنطقة، وهذا ما ذكره تيودور هرتزل نفسه في المجلد الثالث من يومياته المنشورة سنة 1958. فلقد كان هرتزل يسعى في الأصل إلى تأسيس «شركة ذات امتيازات» تحت حماية إنجلترا أو أية قوة أخرى كمرحلة أولى إلى حين تحويلها إلى دولة يهودية، وقد ذهب إلى القول بأن «مشروعي مشروع استعماري»، ثم وصف هذا المشروع بأنه «مذهب سياسي وقومي واستعماري»؛ ولهذا أمكنه أن يعلن في ختام مؤتمر بازل الذي انعقد في أغسطس سنة 1897 لإقرار هذا المشروع: «لقد أسست الدولة اليهودية». وهذا هو المشروع الصهيوني الذي لا يزال متواصلًا بوحشية حتى يومنا هذا، وذلك هو الأصل في ذلك المشروع الذي لا ينبغي أن ننساه أبدًا، بل نضعه نصب أعيننا سواء كنا ساسةً أو شعوبًا.
ولقد بين لنا بعض كبار الباحثين الثقات أن أسطورة الوعد الأبوي هي تأويل حديث «للوعد البدوي» الذي يقوم على توطين قبيلة من الرعاة لتوفير الاستقرار لهم، في حين أنها ليست سوى نبوءة مستوحاة من غزوات داود، ولم يتم توظيف هذا التأويل إلا بعد قدوم قبائل البدو الإسرائيليين إلى فلسطين؛ وذلك بهدف تبرير أو إضفاء الشرعية على غزو إسرائيل لفلسطين والتوسع في هذا الغزو فيما بعد؛ وهكذا تم توسيع الوعد البدوي ليصبح وعدًا قوميًّا، في حين أن هذا العهد الأبوي كان موجهًا في الأصل إلى جماعة اليهود من البدو الذين خاطبهم الرب في سفر التكوين (12، 3 ب) بقوله بأن البركة التي تحل بالإسرائيليين تقترن بمباركة «جميع قبائل الأرض»، والمقصود بهذه العبارة- كما يقول جارودي: جميع الشعوب التي كانت تتقاسم مع الإسرائيليين أراضي فلسطين والضفة الغربية (ص. 47).
ولا ينبغي أيضًا أن ننسى أن الاستعمار الصهيوني قد قام أولًا على الدعم المالي الكبير من ألمانيا في نوع من الابتزاز الدائم عوضًا عن المحرقة النازية، ثم من بعد على دعم الولايات المتحدة الأمريكية اللامحدود بالمال والسلاح منذ السبعينيات. ولكن هذا الاستعمار قد توسع الآن بعدوانه الوحشي على الشعب الفلسطيني وإقامة المستوطنات؛ ولذلك فقد رأى جارودي في نوع من الاستبصار لما يجري الآن أن: «إقامة المستوطنات بصورة غير شرعية في الأراضي المحتلة تحت حماية الجيش الإسرائيلي وأسلحة المستوطنين، لا تعني سوى ترسيخ هذا الاحتلال بحيث يغدو من المستحيل إقامة سلام حقيقي وتعايش سلمي دائم بين شعبين على قدم المساواة..» (ص. 324). لقد رأى جارودي ذلك منذ عقود عديدة، فما بالك لو أنه قد عاش ليرى أن ما حذَّر منه يتحقق على أرض الواقع في أبشع صوره، ذلك الواقع الذي أثار الآن حفيظة بعض الساسة والشعوب في الغرب الأوروبي المتحضر إنسانيًّا، بينما العالم الإسلامي عمومًا والعربي خصوصًا لا يزال غير قادر على اتخاذ مواقف جذرية إزاء هذا الخطر الداهم.
د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة