أمريكا والكيان الصهيوني.. وجهان لعملة واحدة
الثلاثاء / 2 / ربيع الأول / 1447 هـ - 21:20 - الثلاثاء 26 أغسطس 2025 21:20
عند استعراض التحولات التاريخية على صعيد العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نجد التحول الأبرز هو صعود قوة الولايات المتحدة الأمريكية وتراجع الإمبراطوريات التقليدية، خاصة البريطانية والفرنسية، وأصبحت القوة الأمريكية هي صاحبة النفوذ الأقوى اقتصاديًا وعسكريًا، وظهور ملامح القوة الصناعية والتكنولوجيا وقوة المعلومات الاستخباراتية.
ومع ظهور القوة الصاعدة الأمريكية، ترسخ نفوذ اللوبي الصهيوني داخل المؤسسات الأمريكية، خاصة قطاعات المؤسسات المصرفية وقطاع الإعلام ومراكز البحوث التي كانت جزءًا أصيلًا من القوة الناعمة الأمريكية التي تقدم لصانع القرار مختلف الخيارات .
ومع قيام دولة الكيان الصهيوني عام ١٩٤٨ ونكبة فلسطين، كانت المعطيات للتحالف الأمريكي الإسرائيلي واضحة وتنسجم مع معطيات ثقافية وتغلغل اللوبي الصهيوني داخل مؤسسات الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة الأمريكية. ومن هنا تراجع الدور البريطاني وقفز للواجهة الدور الأمريكي، وأصبح هناك تناغم فكري ومؤسساتي يتعدى التحالف الأمريكي الأوروبي ممثلًا في دول حلف الناتو.
وعلى مدى 8 عقود، كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الرافعة التي تحمي الكيان الصهيوني وتدافع عنه في مجلس الأمن، وتتخذ عشرات القرارات التي أجهضت إرادة المجتمع الدولي، خاصة على صعيد القضية الفلسطينية. كما أن المعونات العسكرية والأمنية والاقتصادية أصبحت تشكل ظاهرة جديدة في علاقات الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية.
في مهمة صحفية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٨٩ من قبل جريدة عمان، كانت هناك تساؤلات حول هذه العلاقات العميقة والعضوية بين واشنطن والكيان الصهيوني، فكانت ردود بعضها صادمة، حيث أكد البعض من مسؤولين ومؤرخين وصحفيين أن علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بالكيان الصهيوني تكاد تكون أشبه برعاية الإدارات الأمريكية لإحدى الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن واشنطن تعد الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة لنفوذها ومصالحها في منطقة الشرق الأوسط. وهناك تطابق فكري غير مفهوم بين الصهيونية كفكر متطرف والرأسمالية الليبرالية، كما أن هناك اللوبي الصهيوني القوي متمثلًا في منظمة «الإيباك» التي تعد إحدى الأدوات القوية والمؤثرة على صعيد صنع القرار، وإن كان من وراء الكواليس.
المال اليهودي والأسر الثرية التي هاجرت من البطش النازي بعد الحرب العالمية الأولى وما قبلها، شكلت ظاهرة الدولة داخل الدولة، حيث تبرز أسر روتشيلد وروكفلر ومورجان وغيرها من الأسر الثرية التي سيطرت على مفاصل الاقتصاد الأمريكي، خاصة وأن النظام السياسي الأمريكي لديه خاصية النفاذ إذا ما توفر المال والتخطيط، وهو أمر نجح فيه اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
وعلى ضوء ذلك، وأمام تلك المعطيات التاريخية والفكرية ونفوذ المال، علاوة على سردية المحرقة التي لحقت باليهود في ألمانيا النازية، يصعب على أي رئيس أمريكي أن يتخطى تلك العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل. بل إن كل رئيس أمريكي جديد يحاول وبكل قوة أن يظهر الكثير من الولاء والدعم اللامحدود على صعيد الدعم العسكري والاقتصادي، وهو الأمر الذي يفسر الدعم الأمريكي والتحالف الأمريكي الإسرائيلي على مدى عقود.
ورغم المصالح الأمريكية الحيوية مع الدول العربية وحتى مع الغرب وجنوب شرق آسيا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ترى أن العلاقات العضوية والعميقة مع الكيان الصهيوني هي الأهم، لأسباب داخلية تتعلق بالمعطيات التي تم التطرق لبعضها. ومن هنا يُحظر أي سلاح أمريكي متطور على أي دولة، فقط الكيان الإسرائيلي هو الذي يحظى بكل التقنية الأمريكية الحديثة. بل إن التعاون التكنولوجي بين واشنطن والكيان الصهيوني كبير ومتعمق، وهذا يفسر تطور التقنية لدى الكيان الإسرائيلي. كما أن المشاورات، وحتى عند قيام العمليات العسكرية ضد خصوم أمريكا وإسرائيل، يكون هناك تنسيق مسبق وتبادل معلومات استخباراتية عميق، كما أن مراكز البحوث الاستراتيجية في واشنطن والكيان الإسرائيلي تتواصل.
وأمام معضلة هذه العلاقات المتشابكة لأهم قوة عالمية الآن وهي الولايات المتحدة الأمريكية، كيف يمكن أن يعتقد البعض بأن قطار السلام العادل والشامل يمر عبر واشنطن؟ بل إن الرئيس الأمريكي الحالي ترامب قال إن مساحة الكيان الصهيوني الحالية محدودة، أي بمعنى آخر أن تمدد إسرائيل في الجغرافيا العربية على ضوء مشروع إسرائيل الكبرى ممكن حسب ادعاءات ترامب.
إذن، السياسة الخارجية الأمريكية منذ عام ١٩٤٨ وحتى الآن هي فقط لا تساند العدوان الإسرائيلي الغاشم على الشعبين الفلسطيني واللبناني، بل هي الرافعة التي تمد الكيان الصهيوني بكل أدوات ذلك العدوان. ومن هنا، فإنه يصعب عمليًا التفريق بين سياسة واشنطن تجاه الصلف والعدوان الإسرائيلي. بمعنى أن الإبادة الجماعية التي يقودها نتنياهو وحكومته المتطرفة لا يمكن أن تتواصل دون ضوء أخضر أمريكي. ويمكن القياس على تمدد المستوطنات وانتهاك حقوق الإنسان وحماية الحريات وقتل الصحفيين، الذي يعد الأعلى في الحروب ويقترب من ٢٥٠ صحفيًا وإعلاميًا.
إذن، العلاقات العميقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل هي غير قابلة للنقاش. بل إن هناك أصواتًا داخل إسرائيل أكثر موضوعية من أصوات الإدارة الأمريكية الحالية. كما أن الاحتلال الإسرائيلي يمارس عدوانيته منذ ثمانية عقود تحت غطاء الدعم والمساندة الأمريكية. بل إن الرئيس الأمريكي السابق بايدن قال بأنه صهيوني، وإذا لم تكن هناك إسرائيل لأوجدناها. وهذا يعني أن الدول العربية في مأزق كبير بين الضغوط الأمريكية حول قضايا التطبيع وتهجير الشعب الفلسطيني وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو جزء من المشروع الصهيوني العالمي، وبين ضرورات الأمن القومي العربي الذي أصبح في مهب الريح.
إن الردود على الحلم الصهيوني للتوسع والتمدد في الجغرافيا العربية، والذي أعلن عنه المتطرف نتنياهو، كانت متوقعة، وهي لا تخرج عن البيانات الرسمية التي تدين وتستنكر تلك الخطط والطموحات الصهيونية. ولكن السؤال المهم هنا: هل الرد على المخططات الاستراتيجية يتم بالبيانات؟ أم أن المطلوب خطط إستراتيجية مضادة لذلك المشروع الصهيوني الخبيث الذي يضع الأوطان في وضع معقد وخيار يتطلب اليقظة والوحدة ونقاشًا عميقًا حول ضرورة إستراتيجية متكاملة تحفظ للأوطان هيبتها ومقدراتها ومكانتها التاريخية؟
إن إقدام نتنياهو على ذلك الإعلان حول «إسرائيل الكبرى» جاء نتيجة شعور إسرائيلي وأمريكي أيضًا بأن الدول العربية في أضعف حال، حيث الخلافات والصراعات. ومن خلال هذا المشهد السلبي العربي، فإن الفرصة تبدو كبيرة للتمدد. ومن هنا فإن خط الدفاع العربي لكبح وإفشال المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيًا هو دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية وحتى اليمنية، لأن سقوط أي مقاومة يعني أن الطريق أصبح ممكنًا لتنفيذ المخطط الإسرائيلي. ومن هنا، فإن تعزيز المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هو الخط الاستراتيجي الأول، وليس نزع المقاومة، حيث إن الدعوة لنزع سلاح المقاومة تعني تنفيذ المخطط الإسرائيلي عبر مراحل تبدأ باحتلال الضفة الغربية والتمدد نحو جنوب لبنان إلى نهاية المشروع الصهيوني الذي يطال عددًا من الدول العربية.
إن المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين مر بمراحل حتى قبل إعلان وعد بلفور المشؤوم، حيث عقدت عدة اجتماعات أشهرها مؤتمر بازل عام ١٨٩٧. ومن هنا فإن المشاريع الاستراتيجية تبدأ بخطط وتستغرق عقودًا. لكن السؤال: أين الطرف المستهدف من ذلك الحلم الصهيوني؟ إن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية سوف تظل عميقة، وإن كل مظاهر العدوان الإسرائيلي المتواصلة منذ عام ١٩٤٨ وحتى الآن لا تستند إلى قوة الداخل الإسرائيلي، حيث إن الكيان أضعف من ذلك، ولكن الرافعة الأمريكية هي التي سمحت للكيان الصهيوني أن يقوم بكل تلك الأفعال المشينة التي تحميها الولايات المتحدة الأمريكية. كما أن واشنطن همشت الأمم المتحدة ومجلس الأمن من خلال استخدامها لحق النقض «الفيتو» ضد أي قرار يدعو إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية. ومن هنا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تعد عقبة كبيرة أمام أي توازن موضوعي في العلاقات الدولية وتحقيق السلام الشامل والعادل. بل إن واشنطن هي جزء من الإشكالية على صعيد النظام الدولي الأحادي. ومن هنا فإن الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب تبدو ضرورة أخلاقية وقانونية وإنسانية، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية فشلت بشكل واضح في قيادة العالم نحو تطبيق القانون وترسيخ السلام والاستقرار في العالم، بل خلقت بؤر توتر في أجزاء عديدة من العالم، خاصة في المنطقة العربية، من فلسطين والعراق إلى اليمن ولبنان وأفغانستان عبر حروبها المتعددة خلال العقود الأخيرة.
عوض بن سعيد باقوير صحفـي وكاتب سياسي وعضو مجلس الدولة