عمان الثقافي

عن الإنسان المهدَّد بالزوال

لا يحدث الزوال دفعة واحدة كذلك الصوت الانفجاري الضخم الذي يتلاشى كل شيء بعده.. يحدث هنا في هدوء طويل جدا، يفرغ الأشياء من محتواها ثم لا تعود موجودة أبدا أو لا نستطيع الشعور بوجودها في أفضل الأحوال. يحدث هذا الزوال البطيء للإنسان الآن. صحيح أنه لن يختفي من على سطح الكوكب، ولكنه يفقد كل يوم الشروط التي تجعل إنسانيته ممكنة.. يفقد الإرادة على التخطّي، والقدرة على الفعل المسؤول، والاستعداد لصنع أي شيء يتجاوز عبره فكرة البقاء البيولوجي.
يبدو هذا التهديد بالزوال شديد التركيب والتعقيد، بسبب تعقيدات الإنسان نفسه، وتعقيدات تفاعله مع ما حوله في هذا الكون. على أن بعض هذه التهديدات نابع من داخل الإنسان نفسه وبعضها الآخر يُعاد هندسته عبر تقنيات وإجراءات وأسواق تصوغ العالم على صورتها. ويبدو أن تقنيات الذكاء الاصطناعي المتسارعة اليوم ستعجل هذا الزوال أكثر بكثير مما اعتقده بعض الفلاسفة الذين تحدثوا عن 'الإنسان الأخير'.
ولكن حتى لا يكون هذا المقال وما يحمله من هواجس ضد الثورة المعرفية التي يطرحها الذكاء الاصطناعي وجب التأكيد بدءا أن المشكلة ليست في الذكاء الاصطناعي نفسه، ولكن في الكيفية التي نُعيد من خلالها تعريف إنسانيتنا في حضوره؛ ولذلك فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في وقف التقدم، ولكن في منحه غاية إنسانية تليق بنا.
يمكن شرح فكرة التهديد بالزوار التي يفترضها المقال عبر استدعاء النموذج الذي سمّاه القدماء 'الإنسان الأخير' لنكتشف الآن أنه ليس خرافة أو إمعانا في التفلسف، ولكنه حالة عقلية وأخلاقية تتغذّى على الراحة وتخاف المخاطرة وتكره التعقيد. يفقد الإنسان اليوم أحد أهم أسئلته: ماذا يمكن أن نصير؟ لصالح سؤال آخر هو كيف نخفّض المخاطر ونُحسن إدارة الموجود؟ وبين هذين السؤالين يتبدّل أفق الإنسان من التطلّع إلى 'تجاوز' حدود الراهن، إلى تحسين متواصل لشروطه، أعني شروط الراهن نفسها. نراكم اليوم إلى جوارنا المئات من الأدوات 'الذكية' ونضع لأنفسنا عبرها عشرات المؤشرات على أمل أن نحصل على قياس لكل شيء، من وقت القراءة إلى جودة النوم، ومن عدد الخطوات إلى سرعة حرق السعرات الحرارية، ومن مؤشرات جودة الخدمات إلى مؤشرات جودة الحياة نفسها. قد يرى البعض هذا تقدما مهما وإنجازا يستحق الاحتفاء به، ولكن ثمة مشكلة أساسية تكمن في أن شيئا ما ينسحب من هذه الصورة وهو المغزى؛ أي اللحظة التي تمنح هذه الأرقام قيمتها، وتحوّل القياس إلى شيء له معنى. وعندما يغيب هذا المغزى/ المعنى، تبقى المؤشرات بلا روح، والإنسان بلا أفق.. وهذه أول درجات الزوال التي تهددنا.
أما التهديد الثاني فيأتي عبر طريقة جديدة يرى بها العالم نفسه عبرنا، إنها التقنية. ومن تسطيح الأشياء أن نرى في التقنية أداة حيادية نستخدمها أو نتركها، لم يحدث هذا حتى في البدايات التقنية الأولى.. اليوم تعيد التقنية تعريف ما نعدّه جديرا بالاهتمام. ما لا يمكن تحويله إلى بيانات، يصير هامشا، وما لا يستجيب لسرعة المعالجة يبدو متثاقلا أو معطلا. تتحول القيمة هنا إلى ما يمكن قياسه بسرعة، والقيمة هنا للكم وليس للكرامة، ومقدار التفاعل لا الحقيقة والانتباه اللحظي وليس الفهم العميق، ومن المعنى الحقيقي إلى مستوى المؤشرات! إن أخطر ما في هذا التحول بناء على هذه المعادلة يكمن في تغيير معيار الحكم الذي تحول من الجودة إلى قوة الإشارة وكثافتها.
يسيطر هذا الفهم على كل حياتنا تقريبا، فالصحف على سبيل المثال تهتم بالزمن الذي قضاه المتصفح على منصاتها لا بجودة المعرفة والوعي الذي تقدمه لقرائها، وفي غرف أخبار يربط النجاح بعدّاد النقرات لا بمهنية المادة المنشورة ونزاهة سردها، فيما تلاحق الجامعات ترتيب التصنيفات لا أثر التعليم. يتحول المؤشر هنا إلى هدف، ومع الوقت يتم اختطافه تماما. لا يعود الإنسان في هذا السياق موضوع السياسة والأخلاق، ولكنه مادة للوصول إلى رقم أعلى على لوحة العدّ. يتصور البعض أن ثمة مؤامرة هنا، لكن الأمر يبدو مختلفا، إنه نتيجة حتمية لمنطق اقتصادي ـ تقني يفضّل ما يمكن حسابه على ما ينبغي فهمه وحمايته.
يكمن توصيف التهديد الثالث الذي يهدد الإنسان باعتباره تهديدا سياسيا بامتياز. لم تعد إدارة الحياة الحديثة تُركّز على فكرة 'الحق في الفعل' بقدر ما تعمل على تحسين 'تدبير السلوك'، فهي لا تتركك تختار ثم تحاسبك، إنها تحسب/ تحسم اختياراتك سلفا. وهكذا يصبح التوقع أقوى بكثير من الحرية؛ فما قد تظنه قرارا شخصيا ليس سوى المرور عبر أبواب فُتحت لك وأخرى أُغلقت أمامك قبل أن تصل إليها ولذلك فأنت لم تختر الأبواب ولكنك سرت فيما وجدته مفتوحا منها.
ترسم الخوارزميات خرائط الاحتمال للمواطن والمستهلك والمشتبه به والقارئ، ومن خلالها تُبنى سياسات وقواعد ووصول متفاوت للموارد والخدمات. لا تكمن المشكلة هنا في استخدام النماذج للتنبؤ، ولكن في تحوّل التنبؤ إلى أداة لإعادة إنتاج الواقع كما يريده مالك الخوارزميات. هذا الأمر يقتل فكرة الابتكار في الإنسان، والحرية في الاختيار ويقلص قدرته على مفاجأة العالم، وكما هو معلوم بالضرورة فإن من لا يبتكر يزول رمزيا قبل أن يزول فعليا.
ثمة مستوى آخر أكثر خفاء وهو القدرة على الانتباه أو البيئة التي يحدث فيها الانتباه. لا يتشكل الإنسان في لحظة عابرة أو سريعة، إنه كائن يقتات من زمن طويل جدا، يحتاج إلى زمن ليصبح إنسانا، وإلى بطء تتشكل فيه ذاكرته ووعيه بالأشياء وإلى تجارب كثيرة، وأيضا إلى مسافة ينضج فيها ضميره ويتبلور. لكن الحاصل أن منصات التواصل الاجتماعي تحرمنا من هذا الزمن الذي تتبلور فيه الأفكار والأطروحات وتنضج على مهل، الأمر الذي يحرمنا من إنتاج تفكير سياسي وأخلاقي متماسك ومبني على سياق طويل من التجارب والأفكار، حيث تتقوّض القدرة الجمعية على التفكير الأخلاقي والسياسي لصالح لحظة عابرة يتشكل فيها الوعي والذاكرة والتجربة.
قد يقول قائل إن الأمر لا خلو من مبالغة وتهويل، وأن الآلات أدوات، والأطر التنظيمية قادمة، وأن المعرفة تتراكم. هذا صحيح جزئيا، لكن السؤال ليس إن كانت الأدوات نافعة؛ ولكن لأي غاية تتراصف الأدوات، وتحت أي معيار تُقاس نجاحاتها؟ حين تتعلم النماذج منا، فإنها لا تتعلم 'الإنسان' كما نحبّ أن نراه، بل الإنسان كما تُظهره آثار سلوكنا حين نكون تحت ضغط السوق والسرعة والمنافسة! إن مشكلة 'مواءمة' الذكاء الاصطناعي ليست مسألة تقنية منفصلة؛ هي أولا مشكلة مواءمة ذواتنا ومؤسساتنا مع ما ندّعي أنه إنساني. بصورة بسيطة جدا فإن الذكاء الاصطناعي الذاهب في طريق الوصول إلى الذكاء العام الذي سيتجاوز ذكاء الإنسان بملايين المرات لن يتواءم مع الصورة الإنسانية 'الفاضلة' إن شئنا تقريب الفكرة ولكن سيتواءم مع صورة مشوهة بالتراكمات الاستهلاكية والمفرغة من الجوانب القيمية والأخلاقية للإنسان.
ماذا يبقى إذن؟ لا يكفي أن نرفع شعارات 'أخلاقيات الذكاء الاصطناعي'. أولا، إعادة الاعتبار لـ الحق في البطء. ليس البطء باعتباره كسلا رومانسيا ولكن باعتباره بنية أساسية للمعرفة والمسؤولية. يجب أن يُصان في المدرسة والجامعة وغرف الأخبار والمنتديات الثقافية والفكرية والبحثية. من دون بطء منهجي لا يمكن أن يُولد حكم أخلاقي، ولن يُنجز تفكير عام حقيقي. ثانيا، نظافة مؤشرات! أن نُسائل المؤشرات التي تحكمنا قبل أن نُحسّنها. ما الذي يختفي حين نعتمد مؤشرا لقياس النجاح؟ من الذي يُقصى؟ كيف نمنع 'اختطاف الهدف'؟ هذا عمل سياسي بامتياز، وليس امتدادا لخطّة تسويقية. ثالثا، شفافية القواعد، وليس المقصود هنا فتح الشفرات البرمجية فقط.. المطلوب الكشف عن الافتراضات والمعايير التي تتحكم في النماذج والأسواق والمؤسسات، وتمكين المجتمع من مناقشتها وفهمها وتكوين وعي بعملها.
رابعا، إعادة الاعتبار للبيئة التي يتشكل فيها الانتباه. هذا واجب ثقافي وإعلامي قبل أن يكون تقنيا. بناء مساحات تستطيع حماية القارئ من الشذرات الخاطفة والسريعة وإعادة الاعتبار للنص الطويل، وللتفاصيل. وخامسا، إعادة الاعتبار للخيال والإبداع، ليس في كتابة الأدب والرسم ولكن في بناء المؤسسات والعمل فيها خارج القوالب الجاهزة والجامدة.
سيقول قائل أيضا: أين الفرد في كل هذا؟ الفرد هنا ليس بطلا قادما من عمق التاريخ يحمل سيفيا بتارا يغيّر به مصير التقنية بإرادته المنفردة. لكنه ليس صفرا أيضا. كل ممارسة صغيرة من شأنها أن تساهم في عملية حماية الإنسان من الزوال، وهي مجتمعة شرط ضمن قائمة شروط إعادة تأسيس إنسان مسؤول، إنسان قادر على أن يُبطئ حين تستعجل الآلة، وأن يشرح باستفاضة حين تختزل منصات الذكاء الاصطناعي.
وإذا كان الذكاء الاصطناعي ليس عدوا قطعا فإن الزوال ليس قدرا على الإنسان، والخطر ليس في أن تفكر الآلة بدلا منا ولكن في أن نتخلى طوعا وبإرادتنا عن الفضاء الذي يحتاجه التفكير لكي يحدث. ما نحتاجه في هذا المشهد ليس 'إنسانا متفوقا' يُلحق الآلة بذاته، ولا 'إنسانا أخيرا' يتماهى في راحته، ولكن نحتاج إلى إنسان قابلا للمسؤولية يعي المعنى قبل المؤشر ويفهم قيمة البطء قبل السرعة والعدالة قبل الكفاءة.
•عاصم الشيدي كاتب ورئيس تحرير جريدة عمان