عمان الثقافي

«نجمة أغسطس» محاولة لوداع وقراءة صنع الله إبراهيم

 

(1)
كان ذلك في نهاية السبعينيات أو أوائل الثمانينيات، في ظهر يوم حارق من أيام الصيف الجهنمي في الخليج. ربما كان ذلك في أغسطس، وقد يكون أبكر من ذلك الشهر، مثلاً في يونيو أو يوليو السَّعيريين أيضاً، لكن لأغسطس، فيما أنا بصدده، حرارة خاصة. وقد كان ذلك في حافلة ركاب لونها أبيض وأحمر مكتظة إما انها غير مكيَّفة من الأصل، أو أن نظام التكييف فيها كان معطوباً. وكان ذلك التَّنور المحمول على عجلات يقطع الطريق الصحراوي بين مدينتي أبوظبي والعين في دولة الإمارات العربية المتحدة. وكان الراكب البتَّاني الكادح، الشَّاحم اللاحم، الجالس إلى جواري، بما يتدفق منه من روائح يصعب وصفها بالزكيَّة، يحملق فيَّ بنظرات استغراب واستنكار كنت أرمقها من زاوية إحدى عيني. أحدس انه كان يتساءل عن السبب العجيب الغريب الذي يدفع صبيَّاً لم يخضر شاربه بعد لأن يقرأ كتاباً في ذلك الحر الخانق، بينما بقيَّة الركاب يهوُّون وجوههم بما أمكن من المراوح اليدوية المرتجلة. أما الكتاب الذي كنت أقرأه فقد كان رواية 'نجمة أغسطس' لصنع الله إبراهيم الذي رحل عنا في أغسطس هذا.
في فترة التأسيس السياسي والثقافي العنفوانيَّة تلك وصل إليَّ سمعاً أو قراءة ان صنع الله إبراهيم كاتب يساري مصري وسجين سياسي سابق، وكانت تلكما التزكيتان – الانتماء إلى اليسار والذهاب إلى السِّجن نتيجة لذلك – خير سبب لقراءته. بحثت عن أعماله ولم أجد، في ذلك الوقت، سوى 'نجمة أغسطس' في المكتبة الملهِمة التي أسسها المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد في قلب مدينة أبوظبي.
لا أدري عما إذا كان حظي طيباً أو سيئاً ان 'نجمة أغسطس'، التي سأعلم لاحقاً انها باتفاق العديد من النُّقاد أهم عمل كتبه صنع الله إبراهيم، كانت باكورة ما أقرأ له. الذي أتذكره أن انطباعي عن الرواية في قراءتها الأولى كان مشوَّشاً وضبابيَّا، وخليطاً من رهبة الإعجاب غير المفهوم والاستياء غير الصريح، ذلك ان تلك الرواية لم تكن عملاً نموذجياً ضمن نتاجات الكُتَّاب اليساريين، خاصة الذين سُجنوا منهم، والذين كنت أقرأ ما يتوافر من أعمالهم بحافز يختلط فيه الأيديولوجي بالأدبي، غير أن قراءتي الثانية لـ'نجمة أغسطس'، بعد نحو عشرين سنة من ذلك، كانت إيجابيَّة ومتحمسة، بلا أدنى تشوُّش أو ضبابيَّة.
مضت سنوات بعد ذلك الظَّهر اللاهب على الطريق الصحراوي اشتدَّ فيها عودي السياسي والإبداعي بقدر الإمكان، وقرأت، ضمن أعمال أخرى، 'تلك الرائحة' و'اللجنة' التي، بما يشبه المفارقة، كانت سبب اهتمامي بكافكا. وقد حدث كل ذلك من دون أن يقصد أي أحد أي شيء.
كان إهداء 'نجمة أغسطس' موجَّهاً إلى ذكرى شخص اسمه شهدي عطية الشافعي، فأخذت أبحث عما يتوافر من معلومات عن هذا الشخص الذي لا بد انه كان شخصاً جليلاً ما دام جديراً بما فيه الكفاية ليستحق إهداء من صنع الله إبراهيم شخصيَّاً. وذلك قادني إلى قراءة ما تيسر من تاريخ 'الحركة الوطنية للتحرر الديمقراطي' التي تعرف اختصاراً بـ 'حدتو'، وكان ذلك إلهاماً كبيراً لمحاولة معرفتي ما أمكن من تاريخ اليسار في الوطن العربي (وهو تاريخ لم يكن – والأرجح انه لا يزال – غير متاح بما فيه الكفاية). وحين التقيت صنع الله إبراهيم بعد سنين طويلة من ذلك، وبعد أن قرأت ما يكفي (أو لا يكفي) عن شهدي عطية الشافعي، والتعذيب الشديد الذي حدث لليساريين المصريين في عهد جمال عبدالناصر، سألته – أي صنع الله—عن آخر ذكرياته من شهدي عطية، فقال لي إن آخر ما يتذكره منه انه حين كانا – صنع الله وشهدي عطية – مع بقية السجناء في باحة السجن، جاء أحد الجلادين على صهوة حصان، وساط شهدي عطية على رأسه بعنف فسقط أرضاً. يضيف صنع الله إبراهيم انه لم ير شهدي عطية الشافعي بعد ذلك أبداً (ويقدِّم، في مواطن أخرى، معلومات أخرى).
ذهبت إلى مصر مرتين فقط، وقد كانت الأولى في إثر توقيع معاهدة كامب ديفد. وكان من أمنياتي، في تلك الزيارة، زيارة ضريح جمال عبدالناصر، لكن ذلك لم يتحقق.
أما المرة الثانية التي زرت فيها أرض الكنانة، فقد كانت في يناير وفبراير الماضيين، وذلك ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب. وفي هذه المرة كنت مصمماً على زيارة قبر شهدي عطية الشافعي (الذي، بعد مصرعه تحت التعذيب، لم يدفن في مقابر عائلته، بل ان صاحب البناية التي كان شهدي عطية مستأجراً شقة فيها دفنه، بالسر، في مقابر عائلته، أي عائلة صاحب البناية). جنَّدت الخُلَّص من أصدقائي المصريين للوصول إلى القبر من أجل زيارته، فقد كان صنع الله إبراهيم مريضاً ولا يستقبل إلا مكالمات محدَّدة صادرة من أشخاص معيَّنين. وأجرى أولئك الأصدقاء محاولات وبعثوا عدة رسائل بما في ذلك إلى إبنة صاحب المبنى، ولم يكن هناك رد. وهكذا فقد عدت من مصر خالي الوفاض من دون التمكن من زيارة قبر شهدي عطية الشافعي، كما لم أتمكن من زيارة ضريح جمال عبدالناصر قبل ذلك. ولا أدري ما الذي يعنيه هذا في هذا.
أتمنى، في المرة التالية التي أذهب فيها إلى مصر، أن أتمكن من زيارة قبر صنع الله إبراهيم.
(2)
لعل من بداهات القول ان صنع الله ابراهيم واحد من الروائيين العرب الكبار الذين دفعوا بالهاجس الجنسي وأزمة الجنس في المجتمع العربي، وعلاقتهما بـ 'السياسة'، هذا المُحَرَّم الصِّنو، إلى الصدارة النصيَّة فيما يخص أفراد الانتلجنتسيا وعموم الشرائح الاجتماعية والثقافية الأخرى؛ بل إن الأولين، أي أعضاء النادي الفكري النخبوي، يكادوا أن يكونوا أكثر استثارة ومدعاة للتفكر في اهتماماته من التالين، بحيث إنهم يصبحون، في النص، أحد وجوه الأزمة وتجلياتها، وليس أحد حلولها.
وما يلفت الانتباه هنا هو أن هذا لم يتم، في حالة صنع الله إبراهيم، بطريقة 'التنظير'، أو الإثارة أو التحريض أو الوعظ أو الإرشاد أو حتى 'التثوير' التقليدي التي درج عليها كتّاب عرب، في الشعر وفي القص وفي الرواية، بل عبر طريقة أخرى هي جعل الموضوع الجنسي 'المُحَرَّم' جزءاً من طريقة السرد، أو السرد نفسه.
بمعنى من المعاني، سأزعم، إذاً، أن صنع الله إبراهيم أراد أن يكتب 'التابو' نفسه، لا أن ينقده أو يتأمل فيه من خارجه؛ بل سعى إلى أن ينسجه في اللغة. ومعروف أن صنع الله إبراهيم، بعد خروجه من السجن في سياق تجربته السياسية أثناء الستينات الهادرة بمشروعات وطموحات كبيرة، 'أحبطَ' القرّاء والنقاد و'الرفاق' بكتابة 'تلك الرائحة' التي موضوعها 'الجنس' وليس 'السياسة' حسب ظاهر الأمر. لكن بعيداً عن القشرة الخارجية الخادعة، يتمرأى الجنس في تلك التجربة باعتباره موضوعة سياسيَّة من الطراز الرفيع، حيث من نافلة القول أن موضوع الجنس لموضوع سياسي في المقام الأول.
وفي 'نجمة أغسطس'، روايته شبه الأوتوبيوغرافية الأشهر والأهم حسب عديد من النقاد، يتعرض صنع الله إبراهيم لإخفاقات وإنجازات المرحلة الناصريَّة من خلال استدعاء تجربة مباشرة محورها السجن وبناء السَّد العالي؛ فالرواية، في أول المطاف، مهداة إلى ذكرى شُهدي عطيَّه الشافعي، الرمز اليساري المصري المعروف، والذي لقي حتفه تحت التعذيب، كما أسلفت. يتعلق اجتهادي الصغير هنا بأنه في هذا النص ترتبط حالة الهاجس الجنسي بحالة الهاجس السياسي ارتباطاً وثيقاً؛ لدرجة أن التشوهات النفسية التي تتمخض عن الحالة الجنسية غير السويَّة تصبح معادلاً طبيعياً للتشوهات الاجتماعية الناجمة عن إخفاقات المشروع السياسي الثوري البديل، فالرواية في عمومها يمسك بخناق راويها هاجس الجنس وهاجس السياسة على نحو متكافئ.
وبين الهاجسين الاستحواذيين هذين يعتمل الهاجس الإبداعي ويتمرأى بوصفه مشروع 'مساماة' (sublimation)، بالمعنى الفرويدي للكلمة، أو احتمال إنقاذ تتبدى فيه طاقات وإمكانات بديلة للحرية المخنوقة في الحالة الجنسية والحالة السياسية اللتين مسخهما الواقع بالمقدار نفسه.
ويرسم الهاجس الجنسي لدى الراوي خطوطاً متماثلة تتمرأى فيها الوشائج الوطيدة بين الحيِّز الإنساني (أو اللاإنساني) في تجربة السجن، والحيِّز اللاإنساني (أو 'الإنساني') في تجربة المجتمع السجين والسجّان نفسه.
إننا، إذاً، في 'نجمة أغسطس' بصدد راوٍ يبحث توّاقاً عن الحرية خارج جدران الزنزانة، ولكن حظه أقل بكثير من عامر في هذا المسعى، إذ إن الاسترجاعات، أو 'الفلاشباكات'، السجنيَّة في النص تكون في الغالب مسبوقة باستثارة اجتماعية من نوع ما في 'حاضر' السرد، أي بعد الخروج من السجن.
كما أن حالة الخوف الأمني العميق من الآخر، والتي تصبغ النص كله من بدايته حتى نهايته، تماثلها حالة الفضول الجنسي الموغل بالآخر لدى شخصية الراوي المثقف، والسجين السياسي السابق. غير أن ملاحظاتي الأولية التالية ستحاول أن تحفل ببعض أوجه الهاجس الجنسي فحسب.
وأشكر هنا الأستاذ وليد حمارنه الذي يقرأ عنوان الرواية، 'نجمة أغسطس'، بأن فيه إحالة إلى وضوح نجوم السماء العربية في شهر أغسطس نظراً لحرارة المناخ في منطقتنا تلك من العالم. وهذا أمر يشجعني على الاعتقاد، إذاً، بأن في العنوان هذا تكمن ثمة إحالة توازي 'الحرارة' الجنسية الإنسانية بالحالة المناخية الطبيعية.
ولأنني شغوف بمفهوم 'اللقطات التأسيسية' (establishing shots) في السينما، أود اقتراح أن الصفحات الثلاث الأولى من الرواية تقدم هواجس راويها بصورة متينة. ويجري تأسيس تلك الهواجس وترسيخها بوصفها محركاً ثيماتياً بحلول الصفحة الخامسة عشر من النص؛ ذلك أننا نكون قد تعرفنا إلى الراوي الذي استقل القطار لتوّه في بداية رحلة التعرف إلى الذات عبر الاستكشاف الداخلي والخارجي، حيث إن القطار هنا هو المركبة المجازية للرحلة التي ستوصلنا عبر محطاتها إلى فضاءات تتمدد في التاريخ والسياسة والثقافة، والأهم من ذلك أنها تتمدد في الإنسان الذي هو نتاج حرج للغاية للتاريخ والسياسة والثقافة (فلنقل، كما في جنس 'فيلم الطريق' (road movie) في السينما).
الراوي جالس في قمرته في القطار، إذاً، ثم 'أحسست بحركة على باب الديوان فالتفت لأرى رجلاً في سترة صفراء. نهضت واقفاً. واقترب الرجل مني ثم انحنى على المقعد دون أن يفوه بكلمة. وبثانية تحول إلى فراش من طابقين. قال مشيراً إلى باب صغير في الحائط: الغطاء هنا. واعتدل باسطاً قامته ثم قال: لو عزت حاجه اندهلي. قلت: حاضر يا فندم. تطلع إلي مندهشاً قبل أن يغادر الديوان ويغلق الباب من خلفه' (ص 12 من طبعة منشورات اتحاد الكتاب العرب الصادرة في دمشق في 1974، وأرقام صفحات بقية الاقتباسات الواردة في المادة هذي تعود إلى تلك الطبعة).
إن من الواضح هنا أن الذاكرة المسكونة برعب تجربة السجن وأهوالها الكثيرة قد توجست شراً كبيراً من لون سترة عامل الخدمة في القطار، إذ يبدو أنها ذكّرت الراوي، بصورة لا واعية، بجلاديه وأزيائهم الرسمية، وجعلت، بالتالي، من عربة القطار المكيَّف زنزانة أخرى في خُلاصة نفسية كثيفة لتماهي السجن، أي التجربة الاستاتيكية والمغلقة، مع المجتمع، أي التجربة المتحركة والمفتوحة (أو هكذا يفترض أن يكون الأمر على الأقل فيما يخص الأخيرة). ولذلك فإن الراوي يخاطب عامل الخدمة في القطار بطريقة تبجيلية وتوقيرية ('حاضر يا فندم')، أي طريقة معكوسة، وذلك من حيث اننا نتوقع الاحترام والتقدير أن يكونا صادرين من عامل الخدمة عوضاً عن راكب القطار الذي دفع ثمن التذكرة. كان الظرف السجني العسير، حيث السلطة تحتكر الألوان ودلالاتها، قد أجبر الراوي بالتأكيد على استعمال عبارات من قبيل 'حاضر يا فندم' في الحديث مع سجّانيه. وبذلك فإن ما يبدو هنا أنه سخرية من العامل ليس إلا ضرباً تقريبيَّاً من 'الضرر المُصاحِب' (collateral damage) حسب المصطلح العسكري، حيث جاءت مفارقة تماثل دلالة سترة أحد أفراد الطبقة العاملة (عامل خدمة في قطار) بدلالة السترة البوليسية (في السجن)، باعتبارها مؤشراً على وضع غير طبيعي من أساسه. إنه الرعب، إذاً، حيث ليس عامل الخدمة هذا سجّاناً، بل على العكس، فموقعه الطبقي يرشحه لتعاطف الراوي ذي التجربة السياسيَّة اليساريَّة.
وبعد ذلك يواصل الراوي وصفه للموجودات والشر من حوله وتفاعله معها بطريقة تشي لنا بما يستوقفه في محيطه، حيث 'اختلست النظر إلى المرأة التي كان يتحدث معها (شاب)' (ص 13)، وحيث 'اصطدمت وأنا أمرُّ بفتاة أوروبية شقراء ترتدي سروالاً أسود. وأحسست على ساقي بملمس جسمها اللين. وظللت أحس به وأنا أتقدم إلى نهاية العربة وأعبرها إلى عربة الطعام' (ص 13).
ولا يغفل الراوي المولع بالتفاصيل حد الهوس أن يذكر لنا كذلك، وبأسف أكثر من مُبَطَّن، أنه لم يَرَ 'غير جانب من فخذ امرأة كانت تغير من وضع ساقها' (ص 14)، وأعتقد أن المهم ملاحظة أن الراوي يبوح لنا قبيل نهاية الرواية في سياق تبريره لعدم رغبته في الذهاب إلى الكونغو بأنه 'ثم ما تنساش النسوان. أنا عشت كتير من غير نسوان، ومقدرش أفضل كده على طول' (ص 372).
وعودة إلى القطار، أو المركبة المجازية لرحلة الاستكشاف (على شاكلة 'فيلم طريق' سينمائي، كما كنت قد ذكرت)، يواصل الراوي سرده: 'وتخيلت اني أمر من جديد في الممر، وان الزحام شديد. وعندما أصبحت خلف الشقراء ذات السروال الأسود لم أتمكن من الحركة. وانحنت هي إلى الأمام تتأمل شيئاً في الطريق. فانحنيت فوقها لأرى ما جذب اهتمامها. أشعلت سيجارة ثانية وأنا أحدق إلى النافذة. ومررت بيدي على ساقي. وفجأة انغمر الديوان بالضوء. وألفيتني أحدق إلى رجل يتأملني من النافذة. فجذبت يدي بسرعة من فوق ساقي. وأدركت بعد لحظة أن قطارنا توقف بجوار قطار آخر. تحرك الرجل مبتعداً. وتبينت أن الحركة من قطارنا الذي استأنف سيره. فالتففت بالغطاء جيداً وتكومت على نفسي' (ص 16). لم يكن الرجل هذا الذي أطل بفضول عادي من نافذة القطار الآخر ينوي حقاً التلصص على الراوي بصورة متعمدة، غير أن حذاقة السرد لدى صنع الله إبراهيم قد أقنعتنا بهاجس الخوف لدى شخصيته عبر تعريضها لهكذا مفارقة.
إن ما حدث هنا هو أن الراوي، وبعد أن كشفت عنه ذاكرته المسكونة بالخوف في مشهد عامل الخدمة في القطار، ظل يكشف عن بقية هواجسه و'نقاط ضعفه'، فجاءت التوقفات والإشارات ذات الاستحواذات الجنسية الواضحة التي نستدل على أن تلاحقها الفعلي في اللقطات والمشاهد المقتبسة أعلاه وانعكاسها في 'تخيلتُ...' قد أدت إلى تبلور رغبة جنسية غير متحققة في ركامات الحرام والحرمان.
هو عدم التحقق هذا ما يدفع به إلى التلميح بالشروع في مداعبة جنسيَّة ذاتية ربما كان لها أن تتوج بممارسة العادة السرية لولا أن الآخر – أي الرجل المسافر في القطار الثاني – قد اقتحم المشهد وقطع الاسترسال في مثال متطرف على الرعب والاختراق الكامل للحياة الشخصية، حتى في جانبها الأكثر حميميَّة.
والحقيقة أن الراوي يلجأ إلى 'تحسس الساق' بطريقة تساوقيَّة في نهاية الرواية أيضاً، وذلك على إثر استرجاعه للمغامرة الأيروسية المثيرة مع المرأة اليونانية في الإسكندرية التي قصّها له خليل، والتي يشكك الراوي في إمكانية حدوثها، أي أنه، بصورة ما، رأى أنها تجربة متخيلة فأراد هو أن يبدأ في عيشها خيالاً بدوره (ص 583).
وتحفل الرواية بأمثلة لا حصر لها على 'رؤية' الراوي للجنس واستحواذه عليه في كافة التفاصيل المحيطة به، وسأضرب هنا غيضاً من فيض الأمثلة التي يزخر بها النص: عدد مجلة 'الكواكب' الذي يحتوي 'على صورة لسعاد حسني كشفت عن جانب كبير من صدرها (ص 18)؛ 'وتمهلت بجوار فتاة أوروبية في بلو جين أزرق وبلوفر أخضر بلا أكمام أبرز استدارة كتفيها وضغط على صدرها البارز القوي' (ص 35)؛ 'سمعنا دقات متلاحقة فوق الدرج فتحولنا نرقب فتاة أوروبية تهبط في رشاقة وفستانها الواسع القصير يحلق حولها في كل درجة فيكشف عن فخذيها' (ص 69)؛ 'وتهالكتْ على مقعد أمامنا مادة ساقيها. واستقرت نظراتنا على فخذيها الممتلئين' (ص 72)؛ 'جلست في مواجهة القاعة أتأمل أفخاذ السائحات العارية' (ص 136)؛ 'وانحدر بصري فوق ردائها القصير إلى ساقيها المتناسقتين اللامعتين. وتابعت قطرة عرق انزلقت على فخذها ثم ساقها التي خلت من الشَّعر' (ص 170).
غير أن ما هو أهم من تعبير اللغة عن الهاجس الجنسي الاستحواذي من خلال السرد والوصف هو تحول الهاجس الجنسي إلى هاجس لغوي في النص (ولا بأس أن أتذكر هنا أن رولان بارت في كتابه العتيد 'لذة النص' قد أشار إلى أن العرب أدركوا الأمر من زمان حين استخدموا مفردة 'المتن' للإشارة إلى النص والى الجسد معاً)؛ بمعنى أن اللغة نفسها تصبح 'متورطة' أو 'مُوَرَّطَة' في الاستحواذ الغامر، وليس مجرد ناقلة له أو معبرة عنه. فعلى سبيل المثال، تتكرر مفردة 'ولوج' سواء بصيغة الفعل أو الاسم المفرد أو الجمع أربعاً وعشرين مرة في الرواية، ومنها المقطع التالي: 'شعرت بدوار وجفاف في حلقي. ولجأت إلى بقعة من الظل تكونت أمام محل حديث لبيع الملابس. ولمحت من الزجاج إحدى البائعات فولجت المحل. ووقفت أمام فتاة سمراء ذات عينين واسعتين. تأملت عينيها فابتسمت لي بحذر. قالت: أي خدمة'؟ (ص 44).
إن اللغة هنا، ومن خلال استعمال كلمة 'ولجت' مسبوقة بِفاء السببيّة تؤسس علاقة واضحة بين المسبِّب، أي حقيقة أن البيع في المحل تقوم به 'فتاة سمراء ذات عينين واسعتين'، والنتيجة، أي 'ولوج' المحل بناء على ذلك السبب، وليس بناء على الحاجة للتبضع خاصة في النسبة لشخص يعاني من دوار وجفاف في حلقه. ولذلك فإن استخدام مرادفات مثل 'دلفتُ' أو 'دخلتُ' ما كان له أن يتوفر على الحمولة الإيحائية الجنسية الصارخة التي تزخر بها مفردة 'ولجتُ'، وذلك في تصاديها مع مفردة 'أولجتُ' التي لا يخفى على أحد السياق المعياري لاستخدامها في العربية.
ويقترب استخدام مفردة 'ولوج' بمشتقاتها مما قد يظن البعض أنه نوع من المجانية، أو حتى الركاكة اللغوية، في مشاهد متعددة من النص. غير أن الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ فاستخدام المفردة في سياقات لا تبدو للوهلة الأولى أنها جنسيَّة أو أيروسيَّة يعني أنها تتجاوز وظيفة التزويق أوالإيحاء من فوق، لتصبح مفردة رئيسة في القاموس اللغوي للتجربة بكاملها، وبالتالي انعكاساً لهاجسها.
غير أن العلاقة بين هاجس التجربة الجنسية وهاجس اللغة الإبداعية الجديدة (حيث هاجس الإبداع والفن هو أحد الهواجس الثلاثة الكبرى في النص: الجنس؛ الحرية؛ الإبداع، إذ إن 'الفن هو أرفع تعبير عن الحرية' (ص 238) تجد لها – أي علاقة الهاجس الجنسي بالهاجس الإبداعي – تمرئيات أخرى في النص، فاللغة نفسها تصبح جمالية أيروسية كما في المثال التالي: 'نقلت بصري إلى ساعديها العاريين من أول الكتف. وتأملت شعر إبطيها الذهبي. ومضيت أنصت إلى صوتها. ولأول مرة لاحظت ما في مخارج الألفاظ ونهايات الجمل الروسية من إيقاع موسيقي. وكنت في البداية أشعر بها كقطع الصخر' (ص 118).
وفي مثال آخر نشهد كيف أن اللغة تذهب في الأشياء عمودياً لترى في عملية هندسية وميكانيكية يتكون طرفاها من الأرض والآلة تجربة جنسية كاملة: 'ومضيت أرقب عدداً من العمال أحاطوا بحامل فوق عجلات تعلوها بكرة.. كانت هناك ماسورة عمودية تتدلى من البكرة وتنتهي بعمود يعمل في حركة متتالية صعوداً وهبوطاً وهو يتقدم إلى أسفل ينطلق منه صوت أشبه بالحشرجة. وما لبثت أن سرت في الآلة كلها عدة اهتزازات سريعة ثم ارتعش العمود وتوقف عن الحركة تماماً. وظهر شيء من البلل عند التقاء العمود بالماسورة' (ص 26).
وتبلغ الجنسنة اللغوية للفعل الميكانيكي طاقتها الوجودية والشِّعرية الأعلى في القسم الثاني من الرواية، والذي تنعدم فيه النقاط والفواصل، كما تنعدم المسافات بين الماضي والحاضر، وبين فعل الجنس وفعل الخلق، حيث يتجاور فعل الآلة بالأرض مع فعل الأعضاء البشرية ببعضها بعضاً ويتحد به في لوحة لغوية مذهلة: 'ولم أفهم حتى كررت أنها تتألم دائماً منذ كانت المرة الأولى قبل سنوات ولا بد من الرفق فالمادة الغنية الدافئة تفقد توهجها أمام التعنيف والهرولة وتلتف الصخرة بنقاب حجري صلب يمكن تحطيمه بالعنف ولكن لا يمكن إرغامها على أن تعطي فهي تستسلم للحنان وتزداد إشعاعاً ولمعاناً وتلمست أصابعي سطوح الجسد العاري وثناياه حتى حركت رأسها في بطء وشعرت بشفتيها تلينان وأخذ جسدها يتلوى تحت أصابعي' (ص 222).
(3)
أتمنى، في المرة التالية التي أذهب فيها إلى مصر، أن أتمكن من زيارة قبر صنع الله إبراهيم.
•عبدالله حبيب سينمائي وشاعر عماني