عمان الثقافي

الحكاؤون الأوائلكيف بدأت لغة البشر؟

 

مادلين بيكمان

ترجمة: أحمد شافعي

في كتابه 'كيف بدأت اللغة'، يطرح الكاتب واللغوي دانيال إيفرت حجة مثيرة للجدل مفادها أن أسلافنا كانوا يثرثرون مع بعضهم بعضا منذ ما قبل تطور سلالتنا بزمن كبير. وفي هذه الحالة، لا يمكن أن تكون اللغة هي العامل المميز لانتصار سلالتنا على السلالات الأخرى. ودليل إيفرت على ذلك هو أن فرعا محتملا من الإنسان المنتصب [Homo erectus] يرجع إلى قرابة 1.89 مليون سنة قد انتقل إلى جزيرة فلورس الإندونيسية، فتطور فيها إلى سلالة الهوبيت Hobbit أو الإنسان الفلوريسي [Homo floresiensis].
لكي يصل الإنسان المنتصب إلى فلورس، كان عليه أن يعبر خط والاس، وهو عبارة عن قناة مياه عميقة تحول دون انتقال أغلب الحيوانات (والنباتات بدرجة أقل) بين آسيا وأستراليا، مما أسفر عن اختلاف مدهش في الحيوانات بين المنطقتين. وتمتد قناة المياه العميقة أسفل مضيق لومورك الذي يفصل بين بالي ولومبوك.
تقع جزيرة فلورس إلى الشرق من لومبوك ومن ثم إلى الشرق من خط والاس، وإذن فقد كان على سلف الهوبيت أن يعبر قناة المياه العميقة. ومن أجل ذلك، حسبما يذهب إيفرت، لا بد أن السلالة القديمة الشقيقة لسلالتنا قد استعملت ضربا من اللغة للتخطيط للرحلة ولإقامة الأطواف.
ذهب آخرون إلى أن عاصفة هائلة هي التي ربما ساقت أسلاف الهوبيت إلى فلورس من جزر مجاورة متشبثين في بعض الحطام. ولكن حشراتي الاجتماعية تكشف لي عن مشكلة أعمق تتعلق بفكرة اللغة. فنحل العسل، مثلما نرى، يمكنه بسهولة التنسيق للانتقال إلى موقع جديد من خلال رقصة، تمثل ضربا من التواصل بلا شك، لكنها لا تقارب في تعقيدها لغتنا المركبة التجريدية.
والواقع أن نمل النار يقيم أطوافا من جثث موتاه حينما تغرق شبكات بيوته دون الأرضية بفعل المطر، دونما استعمال أي أدوات تواصل. وهذه الأطواف بالطبع لا تشبه أطواف البشر من نواح لا حصر لها، لكنها برغم ذلك تبين ضآلة الحاجة إلى اللغة أو التخطيط من أجل هندسة المشاريع في البرية.
ثم ماذا نحن قائلون في حيوانات ضخمة أخرى انتهت إلى جزيرة فلورس؟ وذلك لأن الهوبيت بالقطع لم يكونوا وحدهم. فالزواحف الضخمة المعروفة بتنانين كومودو والمخلوقات شبه الفيلية التي يصل وزن أحدها إلى نصف الطن أمثلة بارزة لحيوانات أخرى وجدت نفسها 'حبيسة' الجزيرة. فلا أحد يذهب إلى أنها كانت قادرة على الكلام أو إقامة الأطواف، ولكنها برغم ذلك عبرت بطريقة ما خط والاس. (ولعل تنين كومودو عبر من الشرق إلى الغرب بدلا من العكس. أما عبور القناة فقد عبرها).
فقط عند الحديث عن البشر وعن أسلافنا نجد أنفسنا مرغمين على افتراض ظروف استثنائية. ومثلما قال كارل ساجان ذات مرة، فإن المزاعم الاستثنائية تستوجب أدلة استثنائية. ولا أرى مثل هذه الأدلة الاستثنائية التي تشير إلى أسلاف ناطقين للهوبيت.
ولعل الوقت قد حان الآن لتعريف اللغة تعريفا أدق. فاللغة أكثر من محض تواصل، لأن كل كائن حي يتواصل بطريقة أو بأخرى: من أجل تنظيم التزاوج أو للتجمع من أجل أي أسباب أخرى. بل إن البكتيريا نفسها تتواصل: فترسل إشارات كيميائية تستجيب لها بكتريا أخرى، بما يتيح لها أن تكوّن تجمعات ضخمة. والأغشية الحيوية مثال جيد لهذه التجمعات، ومن الأمثلة الجيدة للأغشية الحيوية تلك الطبقة التي تتكون على أسناننا.
اللغة نظام معرفي حاسوبي يتيح تكوين عدد لا حصر له من الرموز ـ الكلمات ـ التي تتجمع وفق مجموعة من القواعد ـ أي النحو ـ لتكوين عدد لا حصر له من الجمل. ويمكن أن نترجم هذا التعريف شبه التقني إلى مفهوم بسيط. فاللغة تتيح لنا أن نتكلم عن أي شيء نريد أن نتكلم عنه، حتى لو أردنا الكلام عن أشياء غير حقيقية، وغير حاضرة، موجودة في الماضي، أو قد توجد في المستقبل.
وهذه القدرة على الحديث عن أشياء غير حقيقية هي قدرة أساسية لنجاحنا بحسب ما يرى المؤرخ يوفال نوح هراري. فبحكي القصص سادت سلالتنا الأرض بلا منازع، وكانت لذلك عواقبه الوخيمة. يوضح هراري في كتابه 'الإنسان العاقل: موجز تاريخ الإنسانية' أننا في غمضة عين لم نتخلص فقط من جميع سلالات الإنسان الأخرى وإنما اخترعنا أيضا أشياء خيالية من قبيل الأمم والدين والفنون والنقود وآمنا بها.
في وقت ما من تاريخنا التطوري القريب، قامت الثورة المعرفية التي حولت سلالتنا من محض نوع ضمن أنواع عدة من الإنسان Homo إلى القوى الحية الأشد بأسا على وجه الأرض. (مؤكد أننا لسنا القوة الأشد بأسا على وجه الأرض، فهذا شرف مستحق لعملية التمثيل الضوئي التي لولاها لما أمكن وجود أي حياة حيوانية).
أتاحت اللغة لسلالتنا أن تقيم علاقات اجتماعية قوية من خلال تبادل القصص، وتكوين جماعات كبيرة قوية لا تقارن بها الجماعات الأصغر للسلالات الشقيقة.
من خلال القصص، آمنت سلالتنا إيمانا جماعيا بأمور، فأدى هذا الإيمان الجماعي بأفراد لا تجمعهم علاقة، بل هم غرباء عن بعضهم بعض، إلى التفاعل على نحو إيجابي. ومثلما يخترع الأطفال المحدثون كلمات مرور للحد من عضوية ناد، استعمل أسلافنا القصص المشتركة لتحديد 'المنتمي' و'غير المنتمي'.
وما كدنا نتمكن من حكي القصص، واختراع عالم خيالي، حتى تغير سلوك سلالتنا بسرعة، وانتقلت الابتكارات المجاوزة للتغيرات الجينية بسرعة من جيل إلى التالي له. بعبارة أخرى، تولت الثورة الثقافية مكان الثورة الجينية، محدثة بسرعة تغييرات في سلالتنا وفي العالم. لكن قبل أن نبدأ حكي القصص، كان علينا أن نخترع اللغة.
ما لا يفسره يوفال هريري هو كيفية اكتسابنا للغة خلال هذه الثورة المعرفية. كيف تسنى لنزر يسير من الحكي أن يقود طفرة في النجاح التكاثري؟ وهل هي قصة ساذجة حقا التي أعطت سلالتنا ميزة كبيرة بالقدر الكافي؟ نعم، ففور أن نمتلك اللغة، لا تعود الأشياء على ما كانت عليه، لكن لا يمكن أن يكون الحكي هو المفتاح الذي فتح الباب للطاقات الكامنة في سلالتنا.
لعل ثورة هريري المعرفية مضت على نحو مماثل للذي تصوره جوزيف هنريتش أستاذ التطور الإنسان في جامعة هارفرد. ففي البداية كان أسلافنا ممتازين في التعلم والاختراع. فعند مشاهدة شخص وهو يستعمل أداة، أو إجراء، أو حيلة لحل مشكلة جديدة عليه، يمكن للمراقب أن يتذكر هذا الحل المذهل وقد يجمع إلى تلك الحيلة اختراعا آخر تعلمه من ذلك الشخص.
وبالجمع بين اختراعات العديد من الأفراد، حسَّن أسلافنا صندوق عدتهم الفردية والجماعية. وباتوا أذكى. ويشير هنريتش إلى فترة التعلم والمحاكاة هذه بالثورة الثقافية التراكمية. فلعل أسلافنا في فجر عهد الإنسان Homo عبروا نقطة معينة تحولت فيها الثورة الثقافية إلى القوة الدافعة التي وجهت التطور الجيني وجهة أتاحت في النهاية أن يصبح أسلافنا ما نحن عليه.
وإذن فقد كانت الثورة المعرفية تتيح تزايد مهارات ومعارف أسلافنا الذي أنشأ حاجة لدى المخ إلى أن يلاحق ذلك التزايد كي يتمكن من الاحتفاظ بكل ذلك القدر من المعلومات. وتلك الثورة المعرفية كانت مدفوعة بتغيرات جينية، من خلال انتخاب أفراد ذوي مجموعات جينية أقدر معرفيا. وهذا الانتخاب المستمر للأقدر معرفيا أدى إلى زيادة في حجم المخ، حتى بلغ حجما جعله يبدأ في إعاقة إنجاب الأطفال.
ومنذ مئتي ألف عام، وصلت زيادة حجم المخ إلى منتهاها. ووصل الهومو سابينز [الإنسان العاقل، سلالتنا الحالية]. وقد استعمل هنريتش المصير المأساوي لكثير من مستكشفي المناطق الجديدة ليدلل على أهمية الثقافة. فلقد توافرت للمستشكفين الأوروبيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حقيبة أدوات معرفية شاسعة، وكانوا يعلمون كيف يستعملون تلك الأدوات، وكانت لديهم اللغة.
ولكن كثيرا منهم هلكوا في أراض مجهولة بسبب افتقارهم إلى الغذاء أو الماء وكلاهما محيط بهم. فلماذا؟ لأنهم كانوا يفتقرون إلى المعرفة الثقافية ليعلموا ما يمكن أن يأكلوه وكيف يجهزونه وأين يمكن العثور على الماء. ولذلك يذهب هنريتش إلى أنه لا بد لنجاح سلالتنا من أن نكتسب ونخزن وننظم وننقل كمًّا متناميا من المعلومات التي أحدثها التطور الثقافي الذي أتاح لنا التكيف مع بيئتنا بعيدا عن التغير الجيني.
وكل تلك المعلومات الثقافية مخزنة في عدد هائل من الأدمغة ـ أو في الدماغ الجمعي. وبطريقة ما، في موضع ما من تطورنا الثقافي، ظهرت اللغة بوصفها وسيلة أخرى، وشديدة الفعالية، لنقل المعرفة الثقافية.
طرح هنريتش فيما يتعلق بالحاجة إلى تعلم ما نأكل وكيفية العثور على الماء طرح مثير. لكن هذه الحاجة غير مقصورة على البشر. فطيور الكاسواري التي تزور أراضينا بانتظام (أو تزور بالأحرى الأماكن التي كانت تقطنها قبل أمد بعيد وجئنا نحن حديثا لنسكنها) تتعقب الأشجار الاستوائية التي تثمر الفواكه، وتتعقب مواعيد ذلك.
وبمثل عمل الساعة تقريبا، تظهر الطيور البديعة طالما تثمر الأشجار فواكهها، أو إلى أن يظهر شيء أفضل في موضع أفضل مما ينتج ثمارا. وفيما يعتني الآباء بالأفراخ يعلمونها دقائق هذه البيئة، بقول أشياء من قبيل إنه 'في نوفمبر نذهب إلى الجداول من أجل التين النهري، وحينما ينفد نبحث عن الكوناندونج الأزرق الذي ينمو في الأراضي المرتفعة'.
وتقضي الأفراخ قرابة العام مع الآباء، وهي فترة كافية لتعلم الدورات السنوية للأشجار المثمرة في بيئتها. وفي حالة توطن الطيور البالغة منطقة أخرى، وهو ما يلزمها في بعض الأحيان، فإنها تكافح من أجل العثور على الغذاء لسنة أو اثنتين.
ويمضي مؤلفا كتاب 'الفكرة الأولى' ستانلي جرينسبان وعالم النفس والفيلسوف ستيوارت شانكر إلى حد القول بأنه لا يمكن تفسير اللغة والتفكير الرمزي على الإطلاق من خلال الجينات والانتخاب الطبيعي. وبدلا من ذلك، يعاد اختراع هذه القدرات اجتماعيا مع كل جيل تال. ففي زمن الطفولة، يعاد تعلم جميع مهاراتنا التكيفية المتراكمة جمعيًّا على مدى عشرات آلاف السنين.
وفي عملية مشابهة لفكرة إرنست هاكل (غير الصحيحة) عن أن تطور الفرد يوجز تطور السلالة ـ أي أن كل جنين يعرض في تكونه تاريخ تطور السلالة ـ فإن جرينسبان وشانكر يريان أن تاريخنا التطوري ينعكس في كل طفل، إذ يتطور من قارئ أفكار صغير إلى حكاء راسخ.
لم تتطور قدراتنا المعرفية ثوريا، ولكن بالأحرى من خلال عملية متدرجة وعبر تفاعلات اجتماعية على مدى أجيال من التعلم. ومرة أخرى، في موضع ما، وفي لحظة ما من تلك العملية، ظهرت اللغة.
من بين هذه الحجج، أوافق على أن التطور الثقافي غيَّرنا بسرعة تفوق ما كان يمكن أن يفعله الانتخاب الطبيعي. لكن هذه العقول العلمية والتاريخية الحذرة جميعا وضعت العربة أمام الحصان. فالتطور الثقافي لم يبدأ إلا فور أن امتلكنا القدرة على أن نتكلم، وليس العكس.
* نشر هذا المقال أصلا في موقع (ليت هب) بتاريخ 11 أغسطس 2025، وهو مقتطف من كتاب (The Origin of Language: How We Learned to Speak and Why ) لمادلين بيكمان، الصادر حديثا عن دار سيمون آند شوستر.
** مادلين بيكمان أستاذة فخرية في علم الأحياء التطوري وعلم البيئة السلوكية بجامعة سيدني بأستراليا. تعيش مع زوجها في الغابات الاستوائية المطيرة بشمال أستراليا، حيث يمكنها مراقبة طائر الكاسواري المهدد بالانقراض من مكتبها.