علم النفس.. رافعة من أجل مواجهة تحدّيات المستقبل
الأربعاء / 3 / ربيع الأول / 1447 هـ - 10:09 - الأربعاء 27 أغسطس 2025 10:09
أوليفييه هوديه ويان كويلو
الترجمة عن الفرنسية: حافظ إدوخراز
سوف تواجه البشرية خلال العقود القادمة ثلاث تحدّيات أساسية: الإرهاب والتهديدات البيئية وصعود الذكاء الاصطناعي. يكمن العامل البشري في صميم كل تحدٍّ من هذه التحدّيات، ومن ثمّ فإن الاستنتاج واضح: من أجل إدراك حجم هذه التحدّيات والتصرّف إزاءها بحكمة، فإننا بحاجة إلى علمٍ دقيق وفعّال يعنى بدراسة الإنسان. وهذا العلم يُقدَّم لنا اليوم على طبقٍ من ذهب، فقد أصبح علم النفس بفضل ما راكمه من معارف وعظيمِ استفادته من تطور علوم الأعصاب، مؤهّلًا لمساعدتنا على مواجهة هذه التحديات.
التطرّف والإرهاب والعنف
إذا كان العالم اليوم قد أُصيب بالجنون أو على الأقل يبدو كذلك، فإن السبب راجعٌ بالأساس إلى أن القواعد المنطقية والأخلاقية التي يكون الإنسان قد تعلّمها داخل أسرته أو في المدرسة يمكن أن تُلغى في لحظات، بفعل آليات تلقائية من التفكير قد نكون ضحيّةً لها. وليست فورات الغضب المقدّسة سوى مثالًا واحدا يدلّ على ذلك. إن التفكير المتطرف والاستقطاب الحادّ المنتشر اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي وفي المواقع المروّجة لنظريات المؤامرة على شبكة الإنترنت، هي التي تقود إلى الإرهاب. والحقّ أن كل واحدٍ منّا معرّضٌ لمثل هذه الانحرافات الذّهنية. وهذا مما تعلّمناه من عالم النفس دانيال كانمان (Daniel Kahneman)، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002، إذ برهن بشكل موضوعي من خلال التجربة على أن أي إنسان، بما في ذلك الأشخاص البالغين المتمرّسين على التفكير، يبقى عرضة لارتكاب أخطاء منهجية عديدة في الحكم والتفكير المنطقي بسبب تحيزاته المعرفية أو العاطفية.
إن هذا الضعف المعرفي الكامن في العقل البشري — والذي نعاني منه جميعًا — هو ما يجعل الإنسان هشًّا أمام الاستقطاب والتطرّف، وهو ما يدفع ببعض الأفراد من اليافعين أو الشباب إلى أن يصبحوا خطرًا على أنفسهم وعلى المجتمع بأسره. فحين يتعرّض هؤلاء على شبكة الإنترنت إلى سيلٍ من الصور التي تُحدث لديهم أثرًا انفعاليّا قويا— مثل صور المجازر التي وقعت في سوريا، أو مشاهد العنف المقتطعة من سياقات أخرى — ثمّ تُغذّى أذهانهم باستنتاجات زائفة متهافتة، يصبح التأثير عليهم أيسر، خاصّةً إن كانوا أصلًا يعيشون حالةً من الهشاشة النفسية والاجتماعية وفي قطيعة مع مجتمعاتهم سواء في فرنسا أو في غيرها من الدول.
ولهذا فإن علوم الأعصاب الإدراكية والاجتماعية، مجتمعةً مع علم النفس، يمكن أن تكون ذات فائدة عظيمة. فهي تكشف لنا عن تحيّزات الدماغ البشري، وتُعين على تحديد الآليات التي ينبغي العمل عليها مثل الشك والندم والفضول والقدرة على الكبح الذاتي المرتبط بالقشرة الجبهية في الدماغ، وذلك من أجل تربية الأطفال على التفكير النقدي الذي يتجاوز الأوهام (الجانب المعرفي) والتسامح مع الآخرين (الجانب الاجتماعي)، في عالمٍ يطغى عليه التمركز حول الذات، بل وربما حتى الجنون. وبعبارة أخرى، يمكننا أن نجعل الدماغ أكثر متانة وقدرة على مقاومة تحيّزاته، حالما عرفنا آليات اشتغاله على نحوٍ أفضل.
لقد تعلّم الطب في القرنين التاسع عشر والعشرين كيف يعالج الأجسام البشرية بفعالية أكبر من خلال فهم أفضل لأعضاء الجسم ووظائف كل منها، ثم لاحقا من خلال الكشف عن الجينات المسؤولة عنها. وعلى النّحو ذاته، فإن علم النفس وعلوم الأعصاب سيمكّناننا في المستقبل — بمشاركة الآباء والمدرّسين — من تجويد التعليم عبر معرفة أعمق بالدماغ، العضو المسؤول عن عملية التعلّم. ولدينا هنا رافعة حقيقية ومفتاح للتوازن المعرفي والتقدم الاجتماعي وأمل جديد لم تحظَ الأجيال السابقة بمثيلٍ له.
البيئة والاحتباس الحراري
إننا الناجون الوحيدون من العائلة الكبرى للإنسان، والمتمتّعون وحدنا على ما يبدو بالذّكاء في أسمى مراتبه، غير أننا نخاطر بتدمير أنفسنا بسبب خطورة الأزمة البيئية، بعدما تمكّنا بفضل ذكائنا هذا (صناعة الأدوات، التقدم التكنولوجي، القدرة على الدفاع عن أنفسنا وإنزال العقاب بالآخرين)، من التغلّب على هشاشتنا الجسدية والبيولوجية الأصلية، وغيّرنا بذلك علاقتنا بالعالم.
فإذا كان الذكاء هو لبّ المسألة إذًا، أي القدرة على مقاومة الأخطاء المعرفية والجماعية، فإن الوعي بقضايا البيئة لدى الشباب اليوم يُبشّر بالأمل. وكما أشار إلى ذلك عنوان أحد آخر مؤلفات عالم الفيزياء الفلكية أوبر ريفز (Hubert Reeves): 'حيث ينمو الخطر، ينمو كذلك ما يُنقِذ'. لا بدّ إذن، وكما قال أحدنا في كتاب 'تعلُّم المقاومة'، من أن يطوّر الدماغ البشري آليةً ذاتية للرّقابة المعرفية يكبح بها نفسه جزئيًّا لكي ينجح في اتّخاذ القرارات الصائبة. وذلك من أجل تصحيح 'العُطل البشري'، على حدّ تعبير الكاتب الفرنسي سيباستيان بولر (Sébastien Bohler).
على المستوى الجماعي، تقتضي الضرورة الحدّ من سياسات التلوّث والتدمير على نطاق واسع التي ما نزال ننتهجها، والعمل على حماية موارد الكوكب. أما على المستوى الفردي — أي في دماغ كل شخص منا — يكمن الواجب في أن نغلق صنبور الماء أثناء تنظيف أسنانا، وأن نفضّل الاستحمام الخفيف بقدرٍ معقول من الماء على أخذ حمّام طويل، وأن نطفئ الأضواء غير الضرورية، وأن نفرز النفايات القابلة لإعادة التدوير بشكل صحيح... أي بعبارة أخرى، أن نفعّل أربع صور ملموسة من الكبح الذاتي، تعتمد كلّها على ممارسة آلياتنا النفسية والدماغية، وعلى تنمية الفصوص الأمامية لأدمغتنا من خلال التربية والوعي الكامل.
الذكاء الاصطناعي
يكشف الذكاء الاصطناعي ومواقع التواصل الاجتماعي لنا اليوم، من خلال تأثير التحيّزات المتأصّلة في المبرمجين أنفسهم أو تلك الكامنة في قواعد البيانات وتبادل المعلومات (البيانات الضخمة)، عن بُعدٍ لطالما نُسي وأُهمل في هذا المجال، ألا وهو العامل البشري! والسؤال بالغ الأهمية الذي يجب أن نطرحه هنا هو كيف نُعدّ هذه الأنظمة المعلوماتية بحيث يكون لها نظيرٌ للقشرة الجبهية الأمامية، وهي الجهة المسؤولة عن التحكّم في أدمغتنا؟ إن وجود مثل هذه الجهة ضروري للغاية من أجل كبح تحيّزات أنظمة اتّخاذ القرار هذه، ولجعلها قادرة على مقاومة الأعطال والهجمات. وهذه مسألة يجب أن تُؤخذ على محمل الجدّ لأننا نتحدّث عن قوة النظام ومتانته حين يتعلق الأمر بتأهيل الذكاء — سواء كان بشريًّا أم اصطناعيًّا — ليتعلّم كيف يكبح تحيّزاته ويصحّح أخطاءه ويسدّ ثغراته الأمنية، بما في ذلك في الميادين الصناعية والعسكرية ذات الرهانات الكبرى.
فلنُحسن إذن اغتنام هذه الفرصة الثمينة ولنجعل من علم النفس، الذي قد بلغ مرحلةً أولى من النّضج، علمًا للإدراك والمعرفة. إنه سيكون إحدى المفاتيح الأساسية لفهم هذه القضايا المعاصرة المعقّدة والعمل على إبداع حلول لها. وبعبارة أخرى، فإن علم النفس يعدّ رافعة إنسانية جوهرية لإعادة التفكير في قضايا التربية والحياة الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين.
إنّ إنشاء جائزة مخصّصة لعلم النفس بالتعاون مع مجلة الدماغ وعلم النفس، يجسّد هذه الإرادة الرامية إلى تعزيز مكانة هذا العلم لدى الباحثين الشباب. ونحن إذ نُطلق هذه الجائزة، فإننا نمنحها اسم العالِم الذي أدخل علم النفس، منذ نحو قرن ونصف، في قلب الحقل العلمي. إنه الفيلسوف وعالِم النفس تيودول ريبو (Théodule Ribot). وكلنا أملٌ في أن يواصل آخرون هذه المغامرة في سبيل تعميق معرفة الإنسان بنفسه.
•أوليفييه هوديه أستاذ علم النفس بجامعة باريس وعضو أكاديمية العلوم الأخلاقية والسياسية
•يان كويلو أستاذ علم النفس بجامعة ليل وباحث بالمركز القومي للبحث العلمي بفرنسا
** عن مجلة الدماغ وعلم النفس، عدد 116