عمان الثقافي

لحظات نُسِجت من وجع

صورة تعبيرية من أجواء القصة مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي
 
صورة تعبيرية من أجواء القصة مولدة باستخدام الذكاء الاصطناعي

في صالة الانتظار:
في بهو صالة الانتظار شعر سليمان بالاختناق يسيطر عليه ويمنعه من التنفس رغم المكيفات العديدة التي تبث الهواء في أرجاء تلك المساحة الممتدة من حوله.
نظر إلى طفله صاحب السنوات الخمس، والذي كان يمشي على أطراف أصابعه، ويرفرف بطريقة رتيبة منذ نصف ساعة، ونظراته مصوبة نحو بقعة محددة لا يحيد عنها، وحين ازداد صخب الأصوات من حوله وضع يديه على أذنيه ليفصل نفسه عن كل ما يحيط به.
ترافق إحساس بالمرارة مع الاختناق الذي أصبح يسري بقوة في نفس سليمان، غيّر وضعية جلوسه، نادى طفله عدة مرات دون أن يستجيب، نظر إلى جميع تلك العيون التي تحدق في حركات طفله، ونظر بدوره لأطفالهم الذين يتشابهون في نقاط كثيرة مع تصرفات طفله.
ازدادت الحرارة في داخله، كان الإحساس بالظمأ يتزايد، رغم ذلك لم ينهض، اكتفى بأن غيّر وضعية جلوسه، وانتظر دوره للدخول على الطبيب بخوف كبير.
على قيد الذكرى:
رجع بذاكرته لسنوات ماضية حين ولد سالم، اختار اسمه ليصبح مماثلا لاسم جده، شعر بغبطة كبيرة وهو يرفعه بقماطه المزخرف بنقوش زرقاء، وكانت السعادة لها الكثيرة من الأجنحة التي حلقت به نحو سماوات عالية لا نهاية لها، وحين أذّن وكبّر في أذنه شعر بأنه ملك الدنيا بكل ما فيها.
تخيله يكبر وقامته تطول، فيصبح ابنه ومن ثم صديقه ومؤنسه، يرافقه في رحلاته وفي زياراته لبيوت الأهل والجيران.
أصبحت حياته مرتبطة بسالم يضبطها وفق مواعيد نهوضه ونومه، كان يستعجل الزمن ليكبر سالم ويسايره في خطواته نحو السوق أو المسجد، كان عامه الأول حافلا بذكريات كثيرة، غير أنه انتظر طويلا كلمة بابا التي لم تصدر من فم سالم إطلاقًا.
ترقب الكلمات لتصدر من ثغر طفله غير أن الهمهمات التي كانت تخرج من فمه كانت تزيده خوفًا وقلقًا، وأصبح الخوف يتضاعف كفقاعة كبيرة تتمدد لتخنقه بلا رحمة.
أصبح سالم مرتبطًا بمجموعة من السلوكيات الرتيبة التي تسير بطريقة روتينية لا يحيد عنها، وينتابه صراخ متواصل يلفت أنظار الجميع حين يسمع أصواتًا عالية تصدر من حوله، وتستمر أصداء تلك الصراخات لتقضي على البقية الباقية من ملامح النور في قلبه.
غرفة ودمى:
تنهد سليمان بعمق ونهض نحو طفله الذي كان يدور في حلقات متكررة في وسط بهو المستشفى، أمسكه بهدوء من يديه، لاحظ تلك النظرة الشاردة التي تميز ملامحه، بينما نظرات عينيه لا تركزان على شيء بالتحديد.
أجلسه بجانبه، تأمل حبات العرق التي تنساب على خده، والتعب الذي أنهك جسمه، وتحسس الغصة في داخله والتي وصلت إلى أعلى مستوياتها، ومنعته من التحدث ومن ثم التنفس.
أخرج الدب البني من كيس وضعه بجانبه، حاول لفت انتباه لسالم للدب صاحب الفرو الكثيف والربطة الحمراء، لاحظ أن طفله يجلس ويصدر العديد من الهمهمات المتواصلة.
أرجع الدب إلى الكيس، استعاد ذهنه تشكيلات الدمى والألعاب الكثيرة التي تعج بها غرفته، القطار الصغير الذي يسير بسرعة مع صوت هدير يملأ الأركان، سيارة الشرطة ببوقها المميز، الحصان الذي يهتز بمجرد ركوبه، تشكيلات الدببة الكثيرة والمتباينة، المكعبات التي يمكن أن تصنع منها برجًا أو قلعة كبيرة.
تذكر غرفته تلك التي صممها منذ بداية حمل زوجته بسالم وانتهى من تشكيلها في تسعة أشهر لون طلائها الأزرق، السرير الخشبي الكبير الذي يزين قلب الغرفة، الستائر التي تحتوي على صور مجموعة من السيارات المتداخلة، الرسومات التي زينت زوايا الغرف، والتصاميم التي اختارها بدقة لتتناسب مع ألوان الستائر والنقوش التي تزين أطرافها.
أعاده صوت الأطفال من حوله إلى الواقع، نظر إلى اللوحة الرقمية التي تتغير أرقامها تباعًا، حدق في الرقم الذي يحمله بين يديه، كما ركز في ملامح تلك الوجوه الخارجة من غرفة الطبيب والحزن الذي يملأ الكثير من تقاسيمهم.
فتح هاتفه، وحاول التهام تلك الدقائق التي تشعره بالخوف والتوجس، كما حاول تجاهل دقات قلبه التي تتسارع بصوت مسموع يشعره بالوهن والتعب، مسح خيطًا من العرق المنساب رغم برودة قاعة الانتظار، حدق مرة أخرى في طفله الذي ما زال يمارس حركات من الدوران المستمر.
أرقام:
الصوت المنبعث من شاشة الأرقام فجّر في داخله خوفًا فضفاضًا في هذه اللحظات، أدرك بأنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من دخوله على الطبيب، نهض بصعوبة، وصلت يده إلى يد سالم الصغيرة الغضة، أمسكه برفق، حاول إغرائه بالهاتف الذي يحمله بين يديه، أمسك سالم بالهاتف حدّق فيه، وركز في مجموعة الألعاب المحفوظة في واجهته، حمله في حضنه برفق، جلس في غرفة الانتظار على الكرسي الخشبي، مسح على رأس سالم عدة مرات، قبل جبينه مرتين، مسح مرة أخرى خيط العرق الذي انساب على خده.
نظر إلى الرقم الذي ظهر على الشاشة، نهض وكأن أثقال الحياة ترزح فوقه بكل قسوتها، كانت حركته ثقيلة وخطواته أثقل، حاول التشبث بسالم الذي كانت ما زالت الهمهمات تصدر من ثغره الصغير دون توقف، وصل إلى غرفة الطبيب.
دمعة:
كان صوت خطواته أكثر وضوحًا بعد خروجه من غرفة الطبيب، سالم مازال متشبثًا بالهاتف، وهو ما زال متشبثًا بجسده الصغير، استند إلى الجدار أكثر من مرة، كان وقع كلمات الطبيب مؤلمًا، وكان رنينها أشبه بسياط جلدت قلبه وروحه، تنفس بعمق عدة مرات، واصل السير بخطوات ثقيلة، شعر بضيق الحياة من حوله، لم ينظر إلى الوجوه الكثيرة في أرجاء المكان انفصل عن جميع ما حوله، وفي أثناء سيره حمل الكيس الذي يحوي الدب البني صاحب الربطة الحمراء، ومسح العرق من جبينه، ودمعة كبيرة انحدرت وذاق طعمها المالح مرارًا وتكرارًا.
•أمل المغيزوي قاصة عمانية