ثقافة

ندوة حوارية تستكشف الفرص وتناقش تحديات المترجم في زمن الذكاء الاصطناعي

تحولات عميقة وأسئلة مفتوحة!

 


شهدت قاعة المنتدى الأدبي اليوم ندوة تناولت التحولات العميقة التي يشهدها مجال الترجمة الأدبية في ظل تنامي حضور أدوات الذكاء الاصطناعي إدارتها منال بنت عمر الندابية وشارك فيها المترجم والأكاديمي الدكتور أحمد بن حسن المعيني (مُحاضر في جامعة التقنية والعلوم التطبيقية في صحار) حيث قدم ورقة بعنوان 'نظرات في مستقبل الترجمة الأدبية باستخدام الذكاء الاصطناعي'، كما شاركت في الندوة الباحثة والأكاديمية فاطمة بنت سالم العجمية (محاضرة في الترجمة في جامعة السلطان قابوس) وقدمت ورقة بعنوان 'الترجمة في عصر الذكاء الاصطناعي: بين الفهم الإنساني والحفاظ على الهوية الثقافية'. وأثرت مديرة الجلسة المساحة الحوارية بالجمع بين المخاوف والفرص، وطرحت أسئلة متعمقة حول موقع المترجم في عالم باتت التقنية فيه قادرة على إنتاج النصوص، بل والتظاهر بمحاكاة أساليب كبار الكتّاب.
وحول 'التحولات الأولى' استهل الدكتور أحمد المعيني حديثه بالإشارة إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي غيّرت بالفعل طريقة عمل المترجم، وإن كانت التجربة لا تزال في بداياتها، مؤكدا أن أبرز ما يمكن رصده حتى الآن يتمثل في عاملين رئيسيين: السرعة وتنظيم المهام، فالمترجم الذي كان يقضي وقتا طويلا في البحث عن المصطلحات أو إعداد الهوامش أو تدقيق النصوص، بات اليوم يستعين بالأدوات الذكية لتنجز له هذه المهام في وقت قياسي، مما يتيح له التفرغ للجانب الإبداعي والتحريري.
في المقابل، شددت الدكتورة فاطمة العجمية على أن هذه التحولات نقلت المترجم من مجرد ناقل للمعرفة إلى محرر للنصوص، فالمترجم اليوم لا يبدأ من الصفر بالاعتماد على القواميس وحدها، بل يتعامل مع نصوص شبه جاهزة تولدها الآلة، ثم يعيد صياغتها وضبطها بما يتناسب مع اللغة والثقافة المستهدفة، واعتبرت 'العجمية' أن هذه النقلة تحمل إيجابيات من حيث الكفاءة، لكنها تثير أيضا تساؤلات حول مدى أصالة الترجمة ودور المترجم في الحفاظ على الهوية الثقافية للنصوص.
منافسة أم معاونة؟
وإجابة على سؤال 'هل تُعد أدوات الذكاء الاصطناعي معينا للمترجم أم منافسا له؟' رأت الدكتورة فاطمة العجمية أن هذه الأدوات تجمع الصفتين معا فهي منافس حين يتعلق الأمر بالسرعة وتخفيف الجهد، لكنها في المقابل تظل بحاجة إلى المترجم البشري لإضفاء العمق والأسلوب، خصوصا في النصوص الأدبية والثقافية، واستشهدت بأمثلة من المجتمع العماني توضّح كيف تعجز الآلة عن فهم الأبعاد الثقافية لعبارات مثل 'خير إن شاء الله' أو 'سبحان الله'، التي تختلف دلالاتها من سياق إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر.
أما الدكتور أحمد المعيني فقد اعتبر أن التخوفات من تهديد المهنة مبالغ فيها، مشيرا إلى أن غياب البيانات والدراسات الموثوقة يجعل كثيرا من الأصوات المتشائمة فاقدة للسند العلمي، وأكد أن مستقبل المهنة لن يكون في انقراض المترجم، بل في قدرته على تطويع الأدوات واستخدامها بوعي.
الآلة والبعد الأدبي
وحول الذكاء الاصطناعي والترجمة الأدبية، شدد 'المعيني' على أن الآلة مهما تطورت لا يمكنها تقليد صوت المؤلف بشكل كامل فكل ما تفعله هو توليد نصوص بالاعتماد على بيانات ضخمة سبق تغذيتها بها، وهي عملية تقوم على التنبؤ بالكلمة التالية وفقًا للنماذج اللغوية، لكن 'الروح الأدبية' تظل عصيّة على التكرار الآلي.
موضحا أنه في تجربته العملية بات يستخدم الذكاء الاصطناعي لتوليد المسودة الأولى للنصوص، بدلا من أن يكتب ترجمة حرفية متعثرة بنفسه، ليقوم لاحقا بإعادة الصياغة وفق المعنى والأسلوب، ويقول: الآلة توفر لي قاعدة أنطلق منها، لكن الحكم النهائي يظل بيد المترجم البشري.
من جهتها، اعتبرت فاطمة العجمية أن الخطر يكمن في التنميط اللغوي، حيث تميل الأدوات إلى دفع المترجم نحو أسلوب واحد متكرر، مما يضعف من بصمته الشخصية ويحد من تنوع التراكيب والصياغات، وهنا يظهر الفارق بين الترجمة البشرية الإبداعية المتعددة الأوجه، والترجمة الآلية التي قد تبدو سلسة لكنها في النهاية تدور ضمن قوالب نمطية.
مهام مساندة
وأستعرض الدكتور أحمد المعيني في الجلسة تجربة استخدم فيها الذكاء الاصطناعي لتلخيص رواية من نحو 400 صفحة في 40 صفحة فقط، مما مكنه من تكوين فكرة أولية عن العمل قبل اتخاذ قرار بترجمته، كما أشار إلى إمكانية الاعتماد على هذه الأدوات في استخراج المصطلحات التخصصية أو إنشاء جداول، بل وحتى تدقيق النصوص لغويا، وأوصى المترجمين الشباب بعدم الاكتفاء باستخدام الذكاء الاصطناعي كأداة ترجمة مباشرة، بل بتجريبه في تطوير مهاراتهم المساندة مثل إعداد الهوامش الثقافية أو البحث عن المراجع أو تلخيص النصوص الطويلة.
علاقة تكاملية
وخلص النقاش إلى أن العلاقة بين المترجم البشري والآلة لن تكون صراعية بقدر ما ستكون تكاملي، وأوضحت المترجمة فاطمة العجمية أن السيناريو المرجح هو أن تصبح الترجمة مزيجا من عمل الآلة وضبط المترجم، مع ضرورة أن يتقن الأخير مهارات 'هندسة الأوامر' ليعرف كيف يستفيد من الأداة بأفضل صورة، لكنها شددت أيضا على أن الطلاب والمترجمين الصاعدين ينبغي أن يتعلموا الأساسيات أولا، قبل أن يلجأوا إلى الأدوات المساعدة، حتى لا يصبحوا رهائن لها وقالت: لا بد أن نقود الآلة لا أن تقودنا.
استشراف العقد القادم
في ختام الندوة، طُرحت المترجمة منال الندابية مديرة الندوة سؤالا حول مستقبل الترجمة العربية خلال العقد المقبل.. حيث رأي الدكتور أحمد المعيني أن المشهد سيشهد ظاهرتين متوازيتين: من جهة، انتشار ترجمات ركيكة تعتمد على الذكاء الاصطناعي دون مراجعة بشرية، ومن جهة أخرى، بروز مترجمين محترفين يوظفون هذه الأدوات لرفع جودة أعمالهم وزيادة إنتاجيتهم، وأكد أنه متفائل بأن المهنة ستتطور لا أن تنقرض، فالتاريخ يثبت أن البشر قادرون على التكيف وابتكار وظائف جديدة كلما غزت التقنية مجالات عملهم.
أما الدكتورة فاطمة العجمية فاعتبرت أن المترجم العربي لن يكتفي في المستقبل بمهارته اللغوية وحدها، بل سيحتاج أيضا إلى كفاءة تقنية، وأن النصوص الإبداعية ستظل الفضاء الذي يميز الترجمة البشرية عن الآلية، وأشارت إلى أن هذا التميّز سيتيح الفرصة لفرز الأعمال الجيدة عن الرديئة بشكل أوضح، في زمن تزداد فيه النماذج الآلية ميلًا إلى التكرار والتنميط.
حلقة عمل مصاحبة
في سياق الجهود التي يبذلهاالمنتدى الأدبي ومواكبة للتحولات التكنولوجية في الحقلين الثقافي واللغوي، أقام في مقره بعد الندوة حلقة عمل تدريبية بعنوان 'الترجمة في ظل الذكاء الاصطناعي'، قدمها الدكتور علاء الدين الزهران (المتخصص في دراسات الترجمة الفورية) هدفت إلى تمكين المشاركين من فهم أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في الترجمة، وتعزيز كفاءتهم في استخدام أدوات الترجمة بمساعدة الحاسوب إلى جانب تطوير مهاراتهم في مجال تحرير الترجمة الآلية بما يواكب متطلبات سوق الترجمة المتغير.
وتتناول حلقة العمل التي تتواصل حتى بعد الغد عددًا من المحاور المهمة، من بينها: مقدمة في تقنيات الترجمة الذكية، والفروقات الجوهرية بين المترجم البشري والأدوات الرقمية، وآليات تقييم جودة الترجمة، إضافة إلى التحديات الأخلاقية والمهنية التي تفرضها هذه التقنيات على مهنة الترجمة. كما تتيح حلقة العمل للمشاركين فرصًا للتطبيق العملي، والنقاش المفتوح، والتفكير النقدي حول حدود الذكاء الاصطناعي، خاصةً في النصوص ذات الطابع الإبداعي أو الإعلاني.
وتأتي حلقة العمل هذه امتدادًا للنسخة الأولى التي نُظّمت في مايو من العام الماضي بعنوان 'ممارسات عملية في الترجمة'، وقدّمها الدكتور محمد الشعراوي، وسعيا من المنتدى الأدبي إلى تعزيز الجسور المعرفية بين الثقافة والتكنولوجيا، وتأهيل الكفاءات الوطنية لمواجهة تحديات المستقبل في مجال الترجمة.