الروح.. وجبروت التاريخ
الاثنين / 1 / ربيع الأول / 1447 هـ - 21:21 - الاثنين 25 أغسطس 2025 21:21
الإنسان.. وما أدراك ما الإنسان.. إنَّه يملك قدرة هائلة على التأقلم، ولولاه فأظنه قد انقرض منذ آماد، ولكن إنْ كان التأقلم خاصية بشرية فقط؛ فلماذا لم ينقرض الحيوان؟ وهذا اعتراض دقيق يتصدر المقال. والجواب.. الحديث ليس عن التأقلم البيولوجي، فالإنسان والحيوان فيه سواء، وقد انقرض كثير من أصناف الحيوانات والأناسي، وإنَّما المقصود التأقلم النفسي؛ الذي تطور عن التأقلم البيولوجي، فالإنسان بذلك، وقياسًا على الظروف التي عاشها في الأرض، من غير الوارد انقراضه، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
التأقلم النفسي.. أوجد لدى الإنسان الشعور بضرورة التغلب على الأخطار، بيد أنَّه كذلك شعر بارتهانه للظروف من حوله، وأنَّ عليه التحرر من عبوديتها لكيلا تسلمه إلى الانقراض، فما الحل؟ مرةً أخرى.. ليس لديه إلا التأقلم، فأخذ يسعى للتغلب على الظروف المحيطة به، محاولًا التحرر من ربقتها. فقطع شوطًا طويلًا في ذلك حتى استوى عاقلًا، فنفخ الله فيه من روحه نفخةً ذات ثلاث شعب: الإيمان والأخلاق والوعي، وهي كأثافي القِدر، لا يستقر أمر الإنسان من دون إحداها. إذًا؛ أين تكمن المشكلة؟ تكمن في الوعي المبتور عن صنويه، فهو الذي أوجد المشكلة في عقله، الحيوان ليس لديه بالأساس وعي، فلا مشكلة عنده.
إنَّ العبودية غير حادثة على الإنسان، فهي تلازمه مذ كان ذرةً في الوجود، ثم خليةً في عالم الحيوان، ثم نطفةً فجنينًا في رحم أمه، ثم بشرًا مترقيًا على الأرض. وظل يعاني من العبودية حتى اليوم، رغم سعيه الجبار والحثيث نحو الحرية؛ التي ليست أكثر من وهم اخترعه بأداة التأقلم النفسي ليواجه مأزق الوعي المبتور.
الإنسان.. لا يواجه مشكلة الوعي المبتور وحدها، وإنَّما يواجه مشكلة أعمق؛ هي «جبروت التاريخ»، وأقصد بالتاريخ مسار الوجود كله، وليس المقتصر على وجود الإنسان، فنحن أبناء التاريخ الوجودي، ليس بمقدورنا التحرر منه، هذه المشكلة العميقة يلقي الإنسان بتبعتها على القدر، وهو نوع من التأقلم.
لنرَ تأريخنا.. ولا يحتاج أنْ نرجع إلى الزمن السرمدي للوجود، ويكفي أنْ نقف عند حالة واحدة، ليستبين فعل التاريخ بنا. لقد عاش الناس أدهرًا سادرين في وهم قسمتهم بين أحرار وعبيد، حتى أرسطو (ت:322ق.م) المعلم الأول احتواه هذا الوهم. لم يعِ العبد أنَّه يرسف في إسار العبودية، فهو منصاع لضربة التاريخ بتقسيمه المجتمع إلى أحرار وعبيد، ولم يعِ الحر بأنَّ ما يقوم به تجاه عبيده أمر غير أخلاقي؛ جعلهم والحيوان سواء. الجميع.. كان مستسلم للتاريخ؛ يبرره الناس بالقدر الإلهي، والفلاسفة بالقدر الاجتماعي، والطبيعيون بالقدر البيولوجي.
الإنسان.. يتوهم أنَّه حر في حياته، وواقعًا؛ هو كعبيده يعيش في منظومة عبودية أكبر، إنَّه يطحنه جبروت التاريخ نفسيًا بأسوأ مما يفعل في العبيد، فهو يتحسّر بأنَّ له وادياً من مال ولغيره واديين، فيظل في خشية من الإملاق، متوجسًا أنْ تهجم عليه أدواء البدن وعلل المجتمع، ويزداد ألمه إنْ كان ضعيف البُنية معلول الجسد، في حين أنَّ عبيده أقوياء أصحاء. وهو دائمًا يسعى أنْ يكون فردًا وحيدًا فوق أعيان الناس، ويؤسفه أنَّه مساوٍ لسَراتهم. ولو نظر إلى نفسه لوجدها كحال عبده، فهل استوى في علو مقامه نتيجة سعيه للحرية؟! إنَّما هو كذلك لأنَّ التاريخ وضعه في هذا المقام، فلرُبَّما بانحراف مسار الأحداث مقدار شعرة؛ أصبح هو ملك يمين عبده. لا فضل له على نفسه، وإنَّما الفضل «للحظ»؛ أحد أدوات التاريخ الجبارة.
الحظ؛ يدير شئون الحياة.. بل يدير منظومة العبودية الكونية للتاريخ، فماذا لو أنَّ والديك لم يتعاشرا لتنتسل من بين صلبهما والترائب؟ وماذا لو لم يسعفك الحظ كملايين البشر بتعليم وتربية وتأهيل؛ فهل تستوي على منصبك الذي فيه؟ وماذا لو أنَّك ولدت في بيئة الشظف، ألا تجد نفسك تتسول الناس ظاهرًا، أو تتلصص باطنًا؟ وفي أحسن الأحوال.. قد يجرك القدر إلى بيئة تخلد بك في وهن الحال وهوان الأمر، أليس الحظ من فعل ذلك؟!
ثم بعد تدرجٍ في الوعي طويل الأمد، مرير المحاولة، دفع الناس أثمانًا باهظة له، تمكن الإنسان أنْ يتحرر من عبوديته القديمة، وأنْ يستقذر ضميره تلك الحال، وأنْ يجرّمها بالقانون الدولي، وظهرت اجتهادات في الأديان تحرمها، وجمعيات تلاحق تجارها، وأدب يصور كالح وجهها، ولكن هل تحرر حقيقةً من العبودية؟ هيهات.. فالواقع يشهد أنَّه خرج من عبودية؛ يتفاوت التعامل فيها بين اللين والشدة، إلى عبودية الأنظمة المتحكمة، التي ليس بإمكانها أنْ ترحم، فهي أنظمة بيروقراطية صارمة؛ لستَ فيها أكثر من سِنٍ في عجلة، تجبرك أنْ تخرج كل يوم في وقت محدد أول الصباح، لتنخرط في زحمة الدروب حتى تصل إلى ضغط العمل، ثم تقطع سحابة يومك في إرهاق مضنٍ، ولا تخرج من عملك إلا بعد انتهاء دوامك، وكل أعمالك تحت عين أخيك الأكبر؛ بحسب عبارة جورج أوريل (ت:1950م) في روايته «1984م»، قلّما تؤجر من مؤسستك على إحسانك فيها، مع ترقبك وزر التقصير.
ثم ما الفائدة التي تجتنيها من هذه الوظيفة؟ لا شيء.. إلا أنْ تدرك -بعدما ذبلت زهرة حياتك- أنَّك كنت قنًا فيها، قد لا تؤمن بها أصلًا، ولم تصبر عليها إلا كرهًا، كابدت فيها آلام البدن ومرارة النفس ولأواء الحياة، لأجل راتب زهيد، ينتهي بك في بيت تأويه مع أولادك وسيارة تقلك. ولو أنَّك نظرتَ مُغِضَّ الطرف عن حالة التأقلم، لوجدت أمرك لم يختلف عن العبودية العتيقة إلا في الشكل، فقد كنت أيضًا في بيت وتتنقل براحلة. أو أنَّك تدخل في معصرة الرأسمالية، تشقي نفسك ومن حولك بـ«فائض الإنتاج»؛ إنْ استساغه ضميرك ظلمت غيرك، وإنْ أنصفت غيرك فشلت في أمرك.
إنَّ الوجود قائم على سلسلة من الأحداث، كل حدث يؤدي إلى آخر. إنَّها السببية الحتمية، أو بالأحرى؛ جبروت التاريخ، الذي عليه تركّبت هذه الأكوان المترامية الأطراف، وهي في اتساع هائل، فماذا لو رمى التاريخ بذراتك في كون آخر، هل كنت تأخذ موضعك الذي أنت فيه الآن؟!
وإلى أين ماضٍ هذا الوجود؟ يصمت التاريخ بجبروت عن الجواب، ولن يسعفك بأداة تكشف سرّه. وإمعانًا في جبروته يُمنّيك بالوصول يومًا ما إلى شيء من الجواب. والأماني -يا للعجب- إحدى مخالب التاريخ التي يفترسنا بها بنعومة.
لقد ابتكر الإنسان ما يخفف من وطأة التاريخ عليه أدوات نفسية كالتأقلم، لكنها لم تبدّل من الحقيقة الوجودية شيئًا، وإنْ كان من حقيقة؛ فإنَّنا نحن معشر البشر جميعًا سواسية، لا أحد أفضل من الآخر، لا الغني المفلق من الفقير المدقع، ولا الفيلسوف الحكيم من الجاهل الغشيم، ولا المكاثر في النسل من عقيمه، كلنا تعبث بنا حتميات التاريخ.
وبعد؛ فما المفر من مأزقنا الوجودي؟ وهل من تحرر من عبودية التاريخ التي يفرضها علينا بأدواته الجبارة؟ إنَّ ما نملكه من تأقلم وتبرير وأماني، أو ما يصيبنا من محاسن الحظوظ والأقدار والصدف، خدعةٌ قد تخفف عنا نفسيًا من ثقل هذا الجبروت، لكنها سرعان ما تنكشف لنا.
ليس من سبيل إلا أنْ نُعْمِل أركان الروح الثلاثة معًا، فمع الوعي علينا أنْ نؤمن برب الوجود، فالتاريخ وجبروته بعض خلقه. إنَّ الإيمان بالله الذي ليس كمثله شيء؛ تعني اختراقك حوائط المادة وحجب اللغة وأوهام النفس وحواجز المجتمع، لتعيش في رحابة الوِسع الإلهي، تنعم بلطفه، ويتساوى لديك التبر والتراب، والجلوس على سرير وثير وافتراش حصير الفقير. وعلينا كذلك تفعيل الأخلاق، فلإنْ لم تكن حرًا بجسدك؛ فلتكن حرًا بأخلاقك.
خميس العدوي كاتب عُماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين».