تقرير.. المجاعة رسمياً في غزة.. هل يكتفي العالم بالبيان الأممي؟
الاحد / 29 / صفر / 1447 هـ - 20:06 - الاحد 24 أغسطس 2025 20:06
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي:
كان النهار قاسياً في خيام النزوح وسط دير البلح. الشمس الحارقة تصب نارها فوق الأجساد، والهواء المشبع بالغبار يثقل أنفاس الصغار قبل الكبار. في تلك الخيمة المهترئة جلست منى أبو داوود، أم لخمسة أطفال، تمسح العرق عن وجه طفلها الأصغر «حسن» الذي بدا كعودٍ يابس يذوب تحت قيظ الصيف. جسده النحيل يرتجف من ضعفٍ أكل عضلاته، فيما عيناه الغائرتان تلاحقان كسرة خبز قد تؤجل انهياره.
أخيرًا.. المجاعة رسمية
تقول منى بصوتٍ متقطع خلال حديثها لـ«عُمان»: «منذ يومين لم يدخل فمه سوى الماء. كنت أحاول خداعه بأن الطعام سيأتي غدًا، لكن الغد كان يأتي خاليًا ككل الأيام الماضية». تحاول أن تهدهده بالأغاني القديمة، علّ النوم يسرق جوعه، لكن الجوع أقوى من أي لحن.
في الخيمة المجاورة، يجلس الجد «أبو خالد» محاطًا بأحفاده الثمانية. يوزع عليهم رغيفًا واحدًا من الخبز مقسومًا إلى قطع صغيرة. يبتسم بمرارة وهو يوضح خلال حديثنا معه: «كنت في الماضي أملأ المائدة بالخبز والزيتون في مثل هذه الليالي. اليوم أقف ساعات طويلة أمام المعابر المغلقة بحثًا عن كيس طحين، فلا أحصل إلا على الانتظار».
هذا المساء، تناقلت العائلات خبرًا كان أشبه بختمٍ رسمي لمعاناتهم: الأمم المتحدة أعلنت أن غزة دخلت مرحلة المجاعة. لم يكن ذلك خبرًا صادمًا بالنسبة لهم، فالموت جوعًا يطرق أبوابهم كل ليلة، لكن الإعلان الدولي كان بمثابة اعتراف أخير بما تجاهله العالم طويلًا.
معنى المجاعة
إعلان الأمم المتحدة للمجاعة في غزة لم يكن توصيفًا عاطفيًا، بل خطوة مبنية على معايير دقيقة اعتمدها التصنيف الدولي المتكامل للأمن الغذائي. يشترط الإعلان أن تتجاوز نسب سوء التغذية الحاد بين الأطفال 30%، وأن تصل معدلات الوفيات إلى مستوى خطير، وأن يعجز الناس عن الوصول إلى الحد الأدنى من الغذاء. كل هذه المؤشرات اجتمعت اليوم في غزة.
بحسب برنامج الأغذية العالمي، أكثر من 80% من سكان القطاع – أي ما يزيد على 1.8 مليون إنسان – يعيشون في حالة انعدام حاد للأمن الغذائي. فيما تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن معدلات الوفيات بين الأطفال دون الخامسة ارتفعت بشكلٍ غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة، بسبب الجوع والأمراض المصاحبة له.
المجاعة في غزة ليست نتيجة جفاف أو كارثة طبيعية، بل ثمرة مباشرة لحصار ممتد منذ سنوات، اشتدّ حتى بلغ ذروته مع حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من 22 أشهر. لذلك، جاء الإعلان الأممي بمثابة شهادة إدانة للاحتلال الذي حاصر الغذاء والدواء والماء والكهرباء عن أكثر من مليوني إنسان.
أمومة مثقوبة بالجوع
رشا الغزالي، أم لخمسة أطفال، كانت تجلس على عتبة مركز إيواء في مدينة غزة. في يدها صحن بلاستيكي فارغ، وفي عينيها دموع تحولت إلى جمر من العجز. أشارت إلى ابنها البكر ذي العشر سنوات وقالت: «انظروا إلى قدميه.. صارت مثل عودين نحيلين. يطلب مني كل ليلة قطعة خبز، وأقسم له أن الطعام سيأتي غدًا، لكنه لا يأتي».
في الليالي الأخيرة، كانت رشا تقطع رغيفًا صغيرًا إلى أجزاء دقيقة، وتوزعه على أبنائها كأنها توزع الذهب. تحاول أن تخفي حزنها بابتسامة مصطنعة، لكنها سرعان ما تنهار عندما ترى طفلتها الصغرى تمص أصابعها الجافة بحثًا عن شيء يسد رمقها.
تضيف لـ«عُمان»: «أحيانًا أذهب إلى النوم وأنا أكاد أموت من الجوع، لكن وجع الجوع في معدتي أسهل من وجع رؤية أطفالي يتضورون أمامي».
الحياة في مركز الإيواء لا تشبه الحياة. أرضية باردة، ازدحام خانق، وغياب تام لأي غذاء أو دواء. توضح رشا: «كل ما نحتاجه هو أن نحيا بكرامة. لا أريد رفاهية، أريد فقط أن أطعم أطفالي».
المجاعة ليست أرقامًا
في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، كانت قاعة الطوارئ مزدحمة بأطفال ونساء نحلت أجسادهم حتى غدت مثل هياكل عظمية. الطبيب ناصر رضوان يقف حائرًا أمام الحالات التي تتدفق كل يوم. يقول: «نستقبل يوميًا عشرات الأطفال المصابين بسوء التغذية الحاد. بعضهم يصل إلينا بوزن لا يتجاوز نصف المعدل الطبيعي لعمره. نحن أطباء بلا أدوات، نكتب تقارير وفاة أكثر مما نكتب وصفات علاج».
يتوقف قليلًا، ثم يضيف لـ«عُمان»: «المجاعة ليست أرقامًا تُسجل في تقارير الأمم المتحدة. هي وجوه هؤلاء الأطفال الذين يموتون أمامي. هي أم تفقد طفلها بسبب قطعة خبز لم تصل. هي شيخ يذبل على سرير المستشفى لأنه لم يجد غذاءً يمده بالطاقة».
رضوان يؤكد أن الكارثة الصحية في غزة باتت خارج السيطرة. نقص الدواء والمستلزمات الطبية يضاعف من معاناة الجوعى، حيث يموت كثيرون بسبب أمراض بسيطة كان يمكن علاجها بسهولة في ظروف طبيعية.
كارثة إنسانية
المجاعة في غزة لم تعد مجرد شبح يلوح في الأفق، بل صارت واقعًا يكتب الموت في السجلات الطبية كل يوم. في 24 ساعة فقط، سجّلت مستشفيات القطاع وفاة ثمانية مواطنين، بينهم طفل، نتيجة الجوع وسوء التغذية. ومع هذه الحالات الجديدة، ارتفع العدد الإجمالي لضحايا المجاعة إلى 289 شهيدًا، بينهم 115 طفلًا لفظوا أنفاسهم الأخيرة لأن قطعة خبز لم تصل إلى أفواههم.
وزارة الصحة في غزة تؤكد أن الأزمة الإنسانية تتفاقم بشكل يومي في ظل الحصار الخانق ونقص الإمدادات الغذائية والطبية. المجاعة القاسية تتداخل مع حرب إبادة جماعية مستمرة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لتجعل من كل بيت وخيمة ساحة مواجهة مع الموت.
إغلاق الاحتلال لجميع المعابر منذ الثاني من مارس/آذار 2025 حوّل غزة إلى جزيرة معزولة عن العالم، تُترك فيها الأجساد لتذبل بلا دواء ولا غذاء. المساعدات الغذائية والطبية إما تُمنع أو تُنهب أو تُعطل عمدًا عند الحواجز، حتى بات دخولها حدثًا نادرًا لا يكفي إلا لساعات معدودة.
تحذيرات الأمم المتحدة جاءت صادمة؛ إذ أشارت وكالة «الأونروا» إلى أن نسبة سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة تضاعفت بين مارس ويونيو، في مؤشر على أن الجوع يفتك بجيل بأكمله. أما منظمة الصحة العالمية فقد وصفت الوضع بأنه «مثير للقلق إلى حدّ الكارثة»، مؤكدة أن واحدًا من كل خمسة أطفال في مدينة غزة يعاني من سوء تغذية حاد يهدد حياته مباشرة.
جريمة حرب موثقة
الناشط الحقوقي أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، يقول: «ما يحدث في غزة ليس كارثة طبيعية بل جريمة ممنهجة. الاحتلال يستخدم التجويع كسلاح حرب، والمجتمع الدولي يتواطأ بالصمت». يوضح أن إعلان الأمم المتحدة للمجاعة يلزم المجتمع الدولي قانونيًا بالتحرك الفوري، لأن «التجويع جريمة حرب موثقة».
ويضيف في تصريح لـ«عُمان»: «إسرائيل لا تعاقب المقاتلين، بل تعاقب المدنيين، الأطفال قبل الكبار. إعلان المجاعة ليس مجرد مصطلح، بل هو إعلان فشل العالم في حماية أبسط حق للإنسان: حقه في الطعام».
الشوا يرى أن هذا الإعلان يجب أن يكون نقطة تحول، لكنه يخشى أن يتحول إلى مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار. «إذا لم يتحرك العالم الآن، فإن التاريخ سيكتب أن البشرية سمحت بإبادة شعب كامل عبر الجوع».
الفيتو أقوى من الإنسانية
بعد الإعلان، صدرت بيانات إدانة من عدة عواصم، لكنها لم تترجم إلى خطوات عملية. في الشوارع الأوروبية والعربية، خرجت مظاهرات ترفع شعارات: «أنقذوا غزة من الموت جوعًا. الإنسانية على المحك». ومع ذلك، ظل الموت أسرع من أي قرار دولي.
المنظمات الحقوقية طالبت بفتح المعابر فورًا وإدخال مساعدات كافية، معتبرة أن استمرار الحصار جريمة إبادة جماعية. لكن بقي الأطفال حتى بعد الفتح الجزئي للمعابر في 5 أغسطس 2025.
في 6 أغسطس 2025، عقد مجلس الأمن جلسة طارئة، واتهم الأعضاء إسرائيل بتجويع الفلسطينيين لكن القرارات بوقف إطلاق النار وعدم تقييد دخول المساعدات بقيت رهينة الفيتو الأمريكي.
ثمة حاجة إلى فعل!
اليوم، لم يعد الجوع في غزة مجازًا أو تهويلًا، بل حقيقة تلتهم أجساد الأطفال والنساء والشيوخ. إعلان الأمم المتحدة للمجاعة ليس سوى تأكيد على ما عاشه الناس منذ أشهر طويلة.
الطفل حسن، الذي بدأنا به الحكاية، قد يغادر الحياة قبل أن تُترجم التقارير الأممية إلى فعل. أمّه لن تسأل عن تفاصيل القانون الدولي، بل ستبكي لأنه مات جائعًا في عالم يفيض بالغذاء حتى التخمة.
غزة اليوم تضع العالم أمام مرآته: هل يكتفي بتسجيل المأساة في تقارير رسمية، أم يمد يدًا توقف موتًا معلنًا؟ في زمن الامتلاء، ثمة مكان صغير على الخريطة يموت فيه الناس لأن لقمة العيش حوصرت قبل أن تصل إلى أفواههم.