كيف سقط مفهوم الأمة الإسلامية في حرب غزة؟
الاحد / 29 / صفر / 1447 هـ - 19:00 - الاحد 24 أغسطس 2025 19:00
حتى وقوع زلزال طوفان الأقصى ظل هناك رعب في الغرب من استفزاز قد يقود إلى صحوة المارد المخيف المتمثل في ربع سكان العالم ١،٦ مليار نسمة المسمى اصطلاحا بالأمة لإسلامية.
٢٣ شهرا من الصمت العاجز، بل التواطؤ السري والعلني من بعض وحداته أمام الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي الأمريكي/ الإسرائيلي في غزة قتلت وأصابت ٢٢٠ ألف شخص من الفلسطينيين أحد شعوب هذه الأمة.
صمت وشلل كانا كفيلين بسقوط هذا البعبع المخيف، وثبوت أنه وهم فكري وسياسي، وأن ما يفرق المنتمين إليه ربما أكثر مما يجمعهم، وأن ما يربطهم بقوى غير إسلامية بما فيها إسرائيل نفسها أكثر مما يربطها ببعضها.
لابدّ من الاعتراف أن تبدد هذا الوهم كان من أكبر التوابع الاستراتيجية في زلزال طوفان الأقصى.
لم يسقط معها وهم المارد الذي يخرج من القمقم، بل سقطت معها أيضا الفكرة التي روجت لها حركات الإسلام السياسي من أن هناك أمة إسلامية واحدة بالمعنى السياسي، وأن هذه الأمة قادرة على الفعل الجماعي عندما تتعرض واحدة منها لعدوان، وأن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية هو الهدف الأسمى الذي نذرت له نفسها، وليس الدولة الوطنية أو الوحدة اللتين قوبلتا بعداء من هذه الحركات.
تلقت هذه الحركات صدمة عمرها في مثلها الأعلى الفكري الذي هزم هزيمة منكرة على أرض الواقع، وسقط النسق الأيديولوجي في فهم العالم على أنه صراع بين دار الإسلام ودار الكفر، وبين الإسلام والغرب المسيحي. لطالما سخرت التيارات الإسلامية من التيارات الوطنية والقومية العربية التي رأت أن الصراع في حقيقته هو بين قوى التحرر الوطني والقومي في الاستقلال السياسي والاقتصادي من دول الجنوب ضد الإمبريالية الغربية ودول الشمال أو المركز الرأسمالي، بل قبلت أن توظف كتيارات إسلامية - باعتراف مسؤولين عرب - في الأعوام الثمانين الماضية في عرقلة وإفشال حركة التحرر والوحدة العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وفي إعادة الدول العربية التي تحدت الاستعمار القديم والجديد إلى الحظيرة الأمريكية.
أتى الخذلان الإسلامي في نفس مستوى الخذلان العربي، ومخيبا للتوقعات بأنه سيتحرك بقوة وسيتمكن من وقف العدوان ومن فك الحصار على غزة.
لم تأت التوقعات من فراغ، بل استندت إلى العديد من المؤشرات:
العدد الهائل للمسلمين، واتساع رقعة العالم الإسلامي، وتمتع أقسام منه بثروات هائلة خاصة النفط والغاز، وتمتع أقسام أخرى باقتصادات صاعدة، وما تمنحه كل هذه الثروة البشرية والمادية - لو كانت هناك إرادة سياسية لتفعيلها - من أسلحة ضغط على القرار الأمريكي القادر على ردع إسرائيل، ووقف الحرب والحصار.
رغم صحة التوصيف الحقيقي للصراع العربي الصهيوني باعتباره صراع وجود قومي بين العرب وإسرائيل، وليس صراعا دينيا بين المسلمين واليهود؛ فإن هذا لا يلغي توافر العديد من الرموز الدينية الإسلامية في هذا الصراع كان يعتقد أنها ستحرك هذا العالم. على رأس هذه الرموز المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول الأكرم، وهو الحرم الذي تعرض في شهور هذه الحرب بالذات إلى انتهاكات إسرائيلية لم يسبق لها مثيل، وبوشر بالفعل في خطوات لبناء ما يسمى بالهيكل الثالث ما يعني فعليا المضي الصهيوني في خطة هدم المسجد الأقصى.
حركتا حماس والجهاد الإسلامي اللتان تمثلان المكون الأكبر في المقاومة وطوفان الأقصى رغم أنهما طورا نفسيهما نحو هوية حركات تحرر وطني، وليست حركات دينية؛ فإن جذرهما الأيديولوجي يوجد في التيار الإسلامي، وكانتا تعولان بشدة على انتصار أمتهما الإسلامية لهما.
عدد من الحكومات الإسلامية في دول ذات وزن مهم تنتمي في جذورها إلى التيار الإسلامي؛ فرئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم، ورئيس تركيا رجب أردوغان كانا في شبابهما جزءا من حركة الإخوان المسلمين، وكان يعتقد أن ذلك سيؤدي من منظور القرب الأيديولوجي إلى مواقف نصرة حاسمة، ولكن ذلك لم يحدث. بل إن المعارضة التركية تؤكد استمرار العلاقات التجارية والدفاعية مع إسرائيل، وزيادة إمدادات النفط من أذربيجان إلى إسرائيل عبر الأراضي التركية.
إذن ماذا حدث؟ المشكلة من البداية في مفهوم الأمة الإسلامية؛ فالأمة بطبيعتها تشير إلى قومية، وليس إلى ديانة. وتعبير العالم الإسلامي هو تعبير أدق من تعبير الأمة. وهو نفسه مفهوم معنوي وروحي، وليس مفهوما سياسيا، وما يربط بين المسلمين وغير المسلمين في البلد الواحد أكبر مما يجمع بين المسلم والمسلم في بلاد بينها آلاف الأميال. وما يربط بعض الدول الإسلامية ودول غربية من المصالح أكبر بكثير مما يربطها بدول إسلامية.
مثل معظم البلدان العربية؛ دخل عدد كبير من البلدان الإسلامية تحت مظلة التبعية الاستراتيجية للولايات المتحدة، وهي مثل الدول العربية مرعبة من فكرة تحدي واشنطن باتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل.
توجد لدى بعض البلدان الإسلامية مصالح مع إسرائيل تجعلها تكتفي بالإدانة والشجب؛ لامتصاص غضب شعوبها فيما تقيم علاقات تجارية ودفاعية واستخباراتية بعضها بعيدا عن الأنظار وبعضها يسد عين الشمس.
شجع الخذلان العربي لغزة الدول الإسلامية على البقاء في خندق التأييد الخطابي الفارغ. المعنى هنا واضح؛ إذا كان العرب قد تخلوا عن أشقائهم فلماذا تكون الدول الإسلامية الأبعد جغرافيا ملكية أكثر من الملك؟
كان لافتا تغير خطاب المقاومة الفلسطينية في الشهور الأخيرة بتركيز ندائها لنصرتها على الأمة العربية بعد أن شعروا باليأس من كل نداءات العتاب «للأمة الإسلامية» ولـملياري مسلم. وانتقل هذا الخطاب للعالم الإسلامي من الاستنهاض إلى الحسرة وفقدان الأمل كما عبر عن ذلك الدكتور منير البرش مدير عام الصحة في القطاع مخاطبا مسلمي العالم: في زمانكم مات أطفال غزة من الجوع. أعلنت المجاعة في غزة بينما أنتم صامتون أو متفرجون. هنيئا لكم هذا العار الذي سيجللكم إلى يوم الدين. هنيئًا لكم أن يُكتب في صحائف التاريخ: أن أطفال المسلمين ماتوا جماعيًا في غزة، وأن الأمة وقفت تنظر إليهم وهم يتحولون إلى هياكل عظمية.
والاعتراف بموت مفهوم الأمة الإسلامية وصل حتى المستويات الرسمية. يقول وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مؤخرا: «كنت أتحدث مع مسؤول من دولة إقليمية، وهو أيضًا شخص رحيم بحق. قال: إنه ببالغ الحزن علينا أن نقبل بأنه لم يعد هناك ما يُسمى بالأمة الإسلامية».
حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري.