أفكار وآراء

كمين الشتات اليهودي

يقدم الجغرافي المصري جمال حمدان في كتابه (اليهود إنثروبولوجيًا) الصادر عن سلسلة دار الهلال المصرية ١٩٩٦م تسلسلًا تاريخيًا للشتات اليهودي، وهو الشتات الذي بدأ مع العصر البابلي، وذلك في عهد سرجون الأكادي في القرن الثامن قبل الميلاد، ثم أكمله نبوخذ نصر في القرن السادس قبل الميلاد: «وبذلك زالت وإلى الأبد دولة اليهود في فلسطين» جمال حمدان، اليهود أنثربولوجيًا، ص٦٠ وهذا هو الأسر البابلي الشهير وفق رواية التوراة. 

ما حدث بعد ذلك أن الفرس انتصروا على البابليين بقيادة قورش الكبير ٥٣٨ ق.م وسمحوا لليهود بالعودة إلى فلسطين ولكن قلة ضئيلة هي التي عادت: «حيث لم يطرب لعودتهم اليهود المقيمون أنفسهم» ص٦٢، أما أغلبيتهم فبقوا في العراق مدة طويلة، وانشطرت منهم نواة يهود فارس في عهد قورش، والبقية ظلت في العراق إلى العصور الإسلامية حيث تعرضوا للإبادة على يد المغول، ومن العراق كانت نواة الشتات شرقًا، فمن يهود فارس انشطر تاليًا يهود هيرات بأفغانستان، ويهود بخارى وسمرقند بتركمانستان اليوم، والقوقاز، ومن هذه المراكز كان الانتشار اليهودي في الشرق الأقصى وصولًا إلى الهند والصين. 

يتعرض حمدان كذلك في هذا السياق لليهود العرب في الجزيرة العربية، والذين تمركزوا في المدينة «ففي الحجاز كانت المدينة وخيبر من معاقلهم، بل كانت المدينة تحمل اسمًا يهوديًا هو يثرب» ص٦٤؛ وكذلك في اليمن حيث كان اشتهر الملك ذو نواس ق ٦م، بيهوديته، ويضيف حمدان «وكان المهاجرون الحضارمة الذين عمروا الحبشة وأسسوا الإمبراطورية الحبشية يهودًا أصلًا ثم تحولوا مبكرًا إلى القبطية» ٦٤، لكن وفق نظرية حمدان فإن يهودية هؤلاء العرب خاصة: «الأرجح أن يهود الجزيرة كانوا في معظمهم عربًا محليين متحولين، وليسوا من يهود فلسطين» أو لربما كانوا بقايا سابقة على الهجرة اليهودية المبكرة إلى فلسطين وبلاد كنعان، حيث إن هجرة الكنعانيين من الجزيرة العربية إلى أراضي فلسطين هي الأقدم كما هو متفق عليه بين المؤرخين على اختلافاتهم. 

إلى فترة الشتات البابلي نفسه يرجح حمدان بداية يهود المغرب: «حيث يدعي اليهود ممن يسكنون الجبال اليوم ويتكلمون البربرية أن أجدادهم تركوا فلسطين إليها قبل الأسر البابلي نفسه، وحيث يسمّون أنفسهم البلستيم Plishtim والكلمة تحريف واضح لفلسطين» ص٦٥ 

هذا ملخص شتات اليهود الرسمي الذي ما تنفك تردده أدبيات الدراسات اللاهوتية التوراتية والمسيحية الغربية، لكن الواقع أن هناك أكثر من شتات يهودي متتابع مستمر منذ ما قبل التاريخ إلى العصور الحديثة، أولها في العصر الهلليني والبيزنطي، وهذا الشتات قاد اليهود غربًا: «كان ثمة مركزان رئيسيان لتركز اليهود: البلقان وسواحل البحر الأسود الشمالية، وكل يسبق العصر المسيحي بوقت طويل» ص٦٦، وذهب عدد من اليهود مع الإغريق بعد الإسكندر، وانتشروا هناك، خاصة في نواحي جنوب روسيا، حيث كما يشير حمدان قامت منهم دولة يهودية للتتار هي دولة الخزر التترية ق٧م، وكان لها مركزان على سواحل قزوين في مصب نهر الفولجا، وآخر في القرم ظل إلى القرن الحادي عشر حين تحطم على يد دولة كييف وطلائع الدولة السلافية الروسية، ومنها انتشر اليهود في روسيا حتى منعت روسيا دخول يهود جدد إليها في القرن ١١م وحددت إقامة الموجودين منهم فيما عرف بحظيرة اليهود Jewish Pale. 

يصل حمدان بعدها للشتات في العصر الروماني الذي أخذهم إلى الغرب الأقصى، حيث قام الرومان بالرد على ثورات اليهود ضدهم في عهد تيتوس بمذبحة عام ٧٠م، فجرى تخريب أورشليم والهيكل وإبادة اليهود «الذين لم يعودوا يزيدون على أقلية في فلسطين» ص٦٩؛ ثم ارتكب الرومان ضدهم مذبحة أخرى عام ١٣٥م في عصر هادريان «حيث قوبلوا بمذبحة نهائية ختمت إلى الأبد على مصير اليهود في فلسطين» ص٦٩؛ وإثر ذلك: «حرم الرومان على اليهود دخول فلسطين نهائيًا، وطردوهم من فلسطين» ص٧٠ ونتيجة لذلك اتجه اليهود غربًا حتى تمركزوا في فرانكفورت منذ القرن الثالث الميلادي. 

تلت ذلك عصور الحروب الصليبية الأوروبية حيث تعرض اليهود للاضطهاد في ألمانيا «أول اضطهاد يتعرض له يهود الراين بألمانيا يبدأ مع الحملة الصليبية ١٠٩٦»، واستمر الاضطهاد الأوروبي لليهود لدرجة أنه: «في أواخر القرن الرابع عشر عام ١٣٩٤ اختفى يهود فرنسا تمامًا بعد أن طُردوا بالجملة منها» ص٧٤؛ مع اضطهادات سياسية شبيهة كما في روسيا شملت بولندا التي تكاثر بها اليهود «لأن ملوك بولندا الذين كانوا يعملون على زيادة سكان مدنهم رحبوا بكل هجرة، فاغتنم اليهود الفرصة» ص٧٦، وهناك في بولندا سيلتم شمل اليهودية «تراكم عددي وتكثيف وتكتيل لليهودية سيعطينا واحدة من أكبر تجمعاتها اليوم.. يسود فيها يهود الغرب الألمان (الأشكناز).. اللغة الجديدة التي نشأت عن هذا التفاعل اليديشية ويديش هي تحريف واضح لكلمة يهودي بالألمانية» ص٧٧ 

أما يهود إسبانيا (السفارديم) فتبدأ قصتهم وفق حمدان مع سقوط الأندلس، حيث طرد اليهود والعرب ١٤٩٤م، وتلت ذلك محاكم التفتيش الأوروبية، وانتشر اليهود إثر ذلك في مناطق متفرقة بالغرب في هولندا وانجلترا وإيطاليا وفرنسا، وفي الشرق خاصة في شمال إفريقيا من مراكش حتى تونس. 

في العصور المتأخرة انتشر اليهود السفارديم في ظل الدولة العثمانية فصارت لهم مراكز في دول البلقان والدانوب والأناضول خاصة في سالونيك والقسطنطينية، وكان للسفارديم لغة خاصة هي اللادينو Ladino. ص٧٩ 

أما في القرون الأخيرة فنشطت الهجرة اليهودية إلى أمريكا على ثلاث مراحل أولها في القرنين السادس عشر والسابع عشر حيث هاجر السفارديم منهم خاصة، تلتها في القرن التاسع عشر مرحلة ثانية تشكلت من يهود أواسط أوروبا ألمانيا وفرنسا خاصة حوالي ١٨٤٨م وما سبقها، والمرحلة الثالثة تكونت من يهود روسيا والنمسا والمجر ورومانيا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين: «دخل الولايات المتحدة من اليهود بين ١٨٨٨م ـ ١٩١٠م زهاء ١٥٦٢٠٠٠ (مليون وخمسمائة واثنان وستين ألفًا)» ص٨١ وهذه الكتلة البشرية كونت ما يصفها حمدان بـ«أضخم تجمع لليهود على وجه الأرض على الإطلاق» ص٨١ 

يركز حمدان بعد ذلك على التوزيع السكاني الديموغرافي لليهود بالنسبة للمناطق ويخلص إلى أن تمركزهم كان في أوروبا والغرب عبر ثلاث دوائر هي شرق أوروبا مركزها بولندا، وغرب أوروبا مركزها فرانكفورت، والولايات المتحدة ومركزها نيويورك، ومنها يستنتج الصورة العامة وهي أن «أوروبا هي عمليًا الوطن المطلق لليهودية العالمية» ص٩٤، ويمضي الكاتب أبعد من ذلك في استنتاجات مثيرة وكاشفة، والكتاب جدير بإعادة القراءة بلا شك، لكن ما يعنينا هنا في كل هذا التلخيص لتاريخ الشتات اليهودي هو الشأن المعاصر اليوم، وهو ما تمثله إسرائيل والصهيونية اليوم. 

الواقع أن اليهود داخل إسرائيل هم الرهائن الحقيقيون لمشروع الصهيونية، وتحولت الدولة من دولة قومية لليهود إلى مصيدة لليهود، وطبيعة إسرائيل جعلتها تتحول بسرعة لافتة، عبر عدوانها المتنامي المستمر العاجز عن التوقف، إلى هدف عسكري مفتوح لكل العداوات والمشكلات التي تثيرها في المنطقة وخارجها، عبر ما يدعوه جمال حمدان بأنه قاعدة عسكرية أكثر منها دولة، ولعلنا نضيف الكمين العسكري، وهذا يذكرنا بما كان شخصه إدوارد سعيد بالهوس الأمني المزمن لإسرائيل، وهو كما يبدو الهوس المرتعب من مصيره، وفيما تحاول إسرائيل تجنب مصيرها الفاغر توغل بالعكس، عبر تفجير ماضيها وزرع الكراهية وإثارة العدوان، في تدمير حاضرها ومستقبلها، وهي عاجزة عن التوقف عن ذلك. 

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني