أعمدة

"مجلس العزاء"

ما إن فرغ المعزّون من أداء صلاة الظهر، حتى عاد أهل المُتوفى والضيوف القادمون من خارج البلدة إلى مجلس العزاء، أقصى الصِبية بعض الكراسي التي ازدحم بها المكان، فرشوا «السُمط»، تكوم الحضور في دوائر، وزعوا صحون الغداء وقنينات الماء. 

وقعتُ ضمن مجموعة قليلة العدد، كان من بينها شخص سمين أعرفه معرفة سطحية، يفتح «فلكفة» دشداسته، لهاثه يتصاعد إلى الأعلى ثم يرتد هابطًا. امتدت الأيادي إلى الصحون التي ضاقت باللحم، ساد صمت قصير، وما هي إلا دقائق وصاح الرجل: «ها مالكم مخجلين؟ أقوم ألقمكم؟». 

أمسك بيده اليسرى المعروقة ورك الذبيحة، غرز أصابع يده اليمنى التي نسيها مقص الأظافر، رمى بكومة لحم مختلط بالشحم أمامي، لعق ما يسيل من بين أصابعه من شحم، كي لا ينزلق على دشداشته، عاود الكّرة مع الباقين وسط دهشة الجميع وتقززهم. توجه إلى الشخص الجالس قبالته وكان ضعيف الُبنية: «كِل لمطوع، كِل، رُم عظمك، تراك أتعيش مرة وحده ما مرتين». 

فرغ الجميع من تناول الغداء، غسلوا أيديهم، عادوا إلى أمكنتهم، لمحتُ الرجل المكتنز نفسه يدخل إلى المجلس باحثًا عن مكان شاغر، لسوء حظي جلس إلى جانبي، خاطب من كان على يساري يطلب منه أن يزحف قليلًا. أخرج زفيرًا عاليًا قال هامسًا: «فلان -ويقصد المُتوفى- كان رجلًا طيبًا، صادفته قبل يومين عند محطة تعبئة الوقود، وهو ينتظر شخصًا اشترى منه أرضًا سكنية، أو ربما تجارية ما يدريك، رغم أنه -والله أعلم- يمتلك عددًا كبيرًا من الأراضي السكنية التي لا يُعرف كيف تحصل عليها». 

قطع حديثه الشاب الذي يقدم القهوة للمُعزين، تناول تمرتين من طاولة التمر، طلب فنجان قهوة ثم استأنف: «حتى يقولوا بسبب استغلاله لوظيفته ومعارفه والواسطات حصّل على أرض زراعية كبيرة ما أعرف كم هكتار، نوبه استفادوا أهله وربعه، لكن ما نريد نظلمه هاذاك رجال هالك». 

وصلت مجموعة جديدة من المُعزين، فلاحت فرصة الهروب إلى مكان آخر ادارأتُ فيه مؤقتًا من رجل مُغتاب ثقيل الظِل «ارتمى عليّ كالقضا المستعجل» كما يقول الإخوة المصريون. 

تظاهرت بالسلام على صديق يجلس في الجهة المقابلة، انتقلت إليه بسرعة البرق، وما هي إلا دقيقة وكان الرجل في وجهي ثم بعامية فهمت مغزاها: «كان فقير نعرفه، لكن حظ الورثة أيلقيوها جاهزة مجهزة، حال مو يتعلموا ولادهم ويكِدوا كما ولادنا ويراضوا العمل؟ لكن أقول لك أحنا في مجلس عزاء، خلي الخلق للخالق!». 

لمحت صاحب العزاء يودع بعض الضيوف، قفزت واقفًا، توجهت إليه بالاستئذان للخروج، التفتُ ورائي لأتأكد أنه لا يتبعني لإكمال حكايته، وأنا أفتح باب السيارة تذكرت أنني نسيت العصا حيث جلست قلت: «تغيب العصا، سادِني، نقع راسي». 

النقطة الأخيرة.. 

كما أن هناك علاقات سامّة، هناك صُدف سامّة. 

عُمر العبري كاتب عُماني