ثقافة

مجتمع "بنو ميزاب" في الجزائر... نموذج حياتي صامد على مدار قرون

 

الجزائر 'د.ب.أ': يبرز النظام الاجتماعي بمنطقة وادي ميزاب في ولاية غرداية التي تبعد بنحو 600 كيلومتر جنوبي الجزائر، كواحد من أبرز دعائم التماسك المجتمعي منذ مئات السنين، وقد نجح في إرساء معالمه في مختلف مناحي الحياة كالهندسة المعمارية الاستثنائية وإدارة التجارة والأعمال بنجاح كبير.
والمجتمع الميزابي الذي تشكل على أنقاض الدولة الرستمية، بحسب بعض العارفين في التاريخ، ليست بحاجة لإثبات نفسه، بل أصبح مثالا يحتذى به في الانضباط والتكافل والتضامن، وفي نفس الوقت منصهرا في السلطة الحكومية في تناغم تام بعيدا عن الصراعات والتجاذبات.
ويحرص بكير، أحد المنحدرين من قصر القرارة بغرداية مهتم بشؤون أبناء منطقته في الجزائر العاصمة حيث يقيم، على الالتزام الدقيق بالقواعد والأحكام التي تحكم هذا المجتمع حتى لو كان بعيدا عن مسقط رأسه بمئات الكيلومترات.
وبالنسبة لبكير، لا يتعلق الأمر بالخوف من 'الخروج عن الملة'، بل هي قناعة راسخة توارثها المزابيون أبا عن جد منذ قرون، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التفريط فيها، فهو اليوم لا يمكنه إقامة حفل زواج نجله لأنه ببساطة لم يحصل بعد على الضوء الأخضر من حلقة العزابة، الهيئة الأعلى والأهم في الهيكل التنظيمي للمجتمع الميزابي.
وحلقة العزابة هي هيئة تضم العلماء والأئمة والأعيان من أهل الرأي والمشورة من الشعب، تتولى الإشراف الكامل على شؤون المجتمع الإباضي الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتشمل مهامها -عبر المسجد- ضبط مواعيد الزواج، وتحديد قيمة المهور.
كما يعد مجلس العشيرة، والمجلس العائلي، من هيئات تركيبة المجتمع الميزابي، إلى جانب جمعية الشباب المعروفة أيضا باسم 'نظام الحراسة'، والمجلس الديني النسائي الذي يختص بالأمور الدينية للنساء التي يستعصي على الرجال الخوض فيها.
ويفخر عمر بودي، أحد الصحفيين الرياضيين البارزين من الجيل الجديد، والذي ينحدر من غرداية بالضبط من مدينة 'قصر' بريان، بأن جده -رحمه الله- كان من الأعضاء البارزين في حلقة العزابة التي يعتبرها القلب النابض للنظام الاجتماعي في وادي ميزاب.
ويرى بودي أن هذا النظام 'يتميز بالتقيد الصارم والتعاون الجماعي، وهو مستمد من القيم الإباضية، إذ يقوم المجتمع على مجالس عرفية تدير الشؤون المحلية، مثل مجلس العزابة الذي يشرف على القضايا الدينية والاجتماعية، وينظم الحياة اليومية وفق مبادئ التضامن والانضباط، مما يعطي لسكان المنطقة ميزة روح التكافل، حيث تتوزع المسؤوليات بين الأفراد لضمان استقرار المجتمع'.
وعن تجربته الشخصية، قال بودي لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ)، إنه اكتشف عن قرب القوانين العرفية التي تحافظ على السلم (نظام الحراسة يومي بين أفراد المنطقة بالتناوب)، وتنظم الزواج (الأعراس الجماعية وكان بين العرسان في صيف 2019)، والميراث، وكذلك الأسواق.
ويؤكد أن هذا النظام، الموروث منذ قرون، ساعد في الحفاظ على الهوية والثقافة المحلية رغم التغيرات الزمنية، 'وأضحى يضرب به المثل في العالم'.
ويعيش يوسف بوعبون، وهو ناشط سياسي ومستثمر، في مدينة مارسيليا بفرنسا منذ 37 عاما، لكنه رغم ذلك لا يزال محافظا على التقاليد والأعراف، كما لو أنه يعيش في غرداية أو الجزائر، رغم اندماجه في مجتمع مختلف جذريا في جوانبه الثقافية والفكرية والروحية.
ويرجع بوعبون، انسجام واتحاد المجتمع الميزابي في الداخل والخارج إلى 'البنية التحتية التي استثمرت في العنصر البشري وجعلت منه سفيرا للنموذج الحياتي الناجح في الجزائر وخارجها'.
كما يذكر أن من بين عناصر هذه البنية التحية، 'المركب'، أو الجمعية بمسمى القانون الفرنسي، والتي تضم المسجد والمدرسة القرآنية، اللذين يتوليان تعليم القرآن وتدريس اللغة العربية لمئات التلاميذ، في خطواتهم الأولى نحو النجاح في حياتهم المهنية. والأمر هنا لا يخص مدينة مارسيليا فقط بل كل المدن الفرنسية والدول التي تضم جالية تنحدر من أصول ميزابية كالسعودية وبريطانيا وإسبانيا وكندا.
ويعد الدين الإسلامي عماد المجتمع الميزابي، حيث يتولى المسجد ضبط أهم المسائل التي تختص بالحياة اليومية والعلاقات بين الأفراد، حتى أصبحت الأعياد والمناسبات الدينية شواهد حقيقية لإظهار للعالم أن هذا المجتمع متوحد في بنيته وعاداته وتقاليده.
ويتبع الميزابيون، المذهب الإباضي ( المذهب الإسلامي الأول في سلطنة عمان) الذي لا يختلف كثيرا عن المذهب المالكي الذي يتبعه أغلبية الجزائريين، بحسب ناصر حفار، رئيس جمعية خيرية تهتم بتقديم الخدمات والمساعدات لمن هو بحاجة إليها، كالتكفل بالمرضى، ونقل الموتى.
ويجسد 'دار العرش' - الذي تقابله تسمية النُزُل- تعزيز اعتبار المسجد دعامة رئيسية في المجتمع الميزابي، حيث يتخذه الميزابيون في كل منطقة وبلدة يرحلون إليها من غير مدنهم الأصلية، سواء داخل الجزائر أو خارجها، فضاء للراحة، فيها قاعة للصلاة، وهي مجهزة بمرافق ووسائل الطهارة، ودون مقابل.
ويشدد بودي، على أن المرأة الميزابية تحظى بمكانة محترمة، وتشارك في النشاط الاقتصادي المنزلي، ويؤكد آخرون يؤكدون أنه لا يسمح لها بالزواج من غير رجال ميزابي، حتى ' لا تختلط الأنساب'، والأمر ينسحب كذلك في الغالب على الرجال.
ولكن بوعون، الذي تزوج جزائرية تنحدر من مدينة خنشلة المحسوبة على منطقة الشاوية، يقول، وكأنه يحاول تصحيح بعض المفاهيم والأفكار، أن والده المرحوم، لم يمانع أبدا في مصاهرة العرب، شريطة أن يكون المتقدم ' يخاف الله ويقيم الصلاة'، في إشارة إلى اتباع دين الإسلام.
كما دافع عن موقف الميزابيين من ثورة التحرير الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، مبرزا الموقف الشهير للشيخ بيوض- شغل منصب وزير في الحكومة الانتقالية الجزائرية- الذي رفض فصل الصحراء عن الجزائر، كما استدل أيضا بشاعر الثورة الراحل مفدي زكرياء، مؤلف النشيد الوطني ' قسما'.
ويعتبر ناصر حفار، أن النظام المجتمعي الميزابي الذي يتيح تشكيل لجان متخصصة في جميع المجلات التي تهم حياة السكان، لا يُعَدٌّ إطلاقا التفاتا أو تقويضا لسلطة الدولة، وإنما هيئة معنوية مساعدة وُجدت لخدمة المصلحة العامة.
ويشارك المجتمع الميزابي في الحياة السياسية كمكون فعال من خلال استوزار شخصيات منه في الحكومات المتعاقبة، وتولي البعض الآخر مسؤوليات حساسة، فضلا عن شغل عضوية الهيئات الرسمية.