ثقافة

مسرحية الدمى ((زياد فوق جبل النورس)) للفلسطيني فتحي عبدالرحمن : جوهر التضامن الوجودي وحاجاتنا الخاصة

 

لو مرّ الكاتب السويدي ينز البوم على غزة اليوم، لشاهد أن الكثير من الأطفال صاروا بلا أجنحة! لم يكن يدري سامي الذي يحاول كسب دقائق من النوم الذي تزداد متعته صباحا، أن هناك هموما ستواجهه فيما بعد، حين سينتقل من البيت إلى المدرسة، التي لا يستطيع الوصول إليها بسهولة، كما لم يدر زياد وكثيرون من الأطفال أن هناك الكثير من العقبات التي تعترض المضيّ في هذه الحياة.
ترى هل كانت رسالة الكاتب متعلقة بالموضوع التقليدي الخاص بذوي الحاجات الخاصة، أم أن لذلك معنى وجوديا، فمن من الأفراد والجماعات والبلاد ليس له ولها حاجات خاصة. لذلك، فإن رغبة سامي، والكاتب، والضمير الإنساني بناء جسور وطرق لتسهيل حياة غير القادرين، فليست القدرة هي أقدام وأرجل وأجنحة. كما أن الرغبة تتعمق في ظل إبعاد الناس عن بعضهم بعضا، ليس في الوجود فوق أعالي الجبال، بل في التفرقة العنصرية التي تتجسد بالمعيقة والمعاقة معا؛ فليس أعمق من تصوير العنصرية بالإعاقة.
والظن أن معنى التضامن الإنساني مع ذوي الحاجات الخاصة، واحترام الاختلاف، والنظر لمن يفقد بعض الخصائص الجسدية بالمكتمل إنسانيا فعلا، سيسكن قلوب الأطفال المشاهدين للعرض وعقولهم، كما سيسكن المعنى الوجودي الإنساني العميق في لا وعيهم إلى حين النضج الفكري، بما يمكن تأويل الرموز. لذلك فإن عرض مسرحية الدمى 'زياد فوق جبل النورس'، مسرحية الدمى لفتحي عبد الرحمن يساهم بالتكوين الإنساني العميق للأطفال والفتيان.
في مدينة النورس القائمة على قمم الجبال، يولد الناس ولهم أجنحة يحلقون بها إلى أي مكان دون الحاجة إلى مساعدة من أحد. أما سامي الذي ولد بدون جناحين فقد حرم من نعمة الطيران، وحرم من أشياء كثيرة كانت تسبب له الكثير من الألم خاصة عندما يسخر أصدقاؤه والتلاميذ في مدرسته من كونه مختلف عنهم. أما صديقته ريما فقد كانت تحبه كثيراً وتساعده في كل شيء. القصة تعرض حياة سامي، الذي وُلد بلا أجنحة في مدينة النورس، ليواجه السخرية والتمييز.
يبدأ العرض بداية محببة تذكر الأطفال بحالهم وهم يذهبون صباحا إلى المدرسة، وميلهم لاقتناص دقائق إضافية للنوم، حيث تقوم الساعات بإيقاظ زياد في يومه الأول للذهاب إلى المدرسة، ثم تأتي الأم، لتكمل الإيقاظ، فيقوم سامي على مضض، لكن يتشجع بوجود ريما ثم تقوم الأم بإيصاله إلى المدرسة من خلال الطيران مع باقي الطلاب، من خلال حمله كونه قد ولد بدون جناحين.
ويتابع العرض جماله بوجود الأطفال مع المعلمة، وهم يتواصلون بسعادة، من خلال الأغاني المتحدثة لمحبة الأبوين، وقد أضفى تحريك الدمى حيوية على العرض، انسجم معه الأطفال في العرض، كما انه تم تصميم الدمى بشكل جمالي محبب للأطفال، فيه زيّ الطالبات وزيّ الطلاب، بالتركيز على اللون الأزرق السائد في مدارس فلسطين.
في لحظة، تسأل طالبة المعلم عن عدم امتلاك سامي لجناحين، ما يثير مشاعر الحزن والغضب لدى زياد، والذي يتحدى سخرية الأطفال. يدور حوار فيما بعد عن مشاعر الشفقة والتضامن والتشجيع.
دفن سامي كتبه ودفاتره وترك مدرسته والابتعاد عن الطلاب المزعجين وحتى عن معلمته وصديقته ريما لأنه كان يعتقد بأنهم لا يحبونه بل يشفقون عليه، وقرر الذهاب إلى المدرسة الواقعة على جبل مشيا، بعد أن يكون قد ترك رسالة لوالديه بما سيفعله.
وهنا تكون الطريق مختبرا له في المتابعة والاستعانة بآخرين، منهم كبير السن الذي يبوح له بأنه يجد صعوبة في الطيران بسبب ضعف جناحيه. كما يلتقي السلحفاة والأرنب والشجرة، ويدور حوارا معهم يتعلق بما فعله، إلى أن ينجح فعلا في الوصول إلى المدرسة بعد اجتياز النهر من خلال طوافة الرجل العجوز، ما يثير لديه أسئلة عن ضرورة مساعدة المختلفين المولودين بدون أجنحة. في الوقت الذي تشجعه المعلمة والأم كون متميزا في مجالات أخرى، بل ويفوق الأطفال الآخرين الذين يملكون الأجنحة. كذلك تخفف الأم والمعلمة حديث الأطفال له بأنهم صغارا ولا يقصدون إيذاءه، وصولا إلى مصالحة قيمية له مع نفسه، ومع الآخرين حيث يكون قد عرف من كبير السن بأنه ليس الوحيد المخلوق بدون جناحين.
ألغى المخرج فتحي عبد الرحمن فكرة أن يقوم سامي ووالداه بصناعة أجنحة من مواد خام لمساعدته على الطيران، من منطلق أن الإعاقة تلازم الشخص وليس بسهولة يمكن أن يتحول الشخص المعاق إلى إنسان طبيعي، ففي الواقع، لم يتحول الكفيف إلى شخص مبصر، كما لم ينهض المقعد ليسير على قدميه، والقزم لم يتحول إلى شخص طويل القامة. لقد انطلق إذن المخرج عبد الرحمن من فكرة انه 'مهما كانت إعاقتك عليك أن تتعايش معها، وعليك أن تكتشف قواك الذاتية ومواهبك لتصنع شخصيتك الفريدة، بدلا من أن تظل أسير انتظار أن تنبت لك أجنحة وتطير، أو اختراع وسيلة تخلصك من إعاقتك'.
كيف سيقرأ أطفال فلسطين المسرحية المقتبسة من قصة الكاتب السويدي ينز البوم؟ سيتذكرون من خلال العرض بأن هناك آلاف الأطفال الذين قتلهم العدوان الإسرائيلي وجوعهم وأفقدهم بيوتهم وأطرافهم مثل حال سامي المختلف والفاقد للأجنحة، وهم أنفسهم من يجدون صعوبات الوصول إلى مدارسهم، وبيوتهم في ظل الحواجز والموانع والتضييق على الحركة.
سيجدون ما هو أكثر مأساوية، حين يرون الاحتلال يهدم مدارس الأطفال في غزة، ويخرب الباقي، حيث لم يبق غير القليل الذي لجأت له الأسر التي أصبحت بلا مأوى حين قصف الاحتلال بيوتهم.
'زياد فوق جبل النورس'، قصة للأطفال، تأليف ورسومات ينز البوم، صدرت القصة في اللغة السويدية بعنوان، JONATAN PA MASBERGET, وصدرت بطبعتها العربية عن دار المني 1991، أما النسخة التي بين ايدينا، صدرت عن مكتبة الفانوس، قام بتحرير الطبعة: إياد برغوثي ومنى سروجي. ومن ترجمة د. وليد سيف.
المسرحية تكشف معاني الشجاعة والحب، وتطرح قضية دمج الأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع بسبل راحة وحقوق متساوية، تشمل مدارس عادية ومواقف خاصة وجسور وإشارات مناسبة. كما تؤكد دور الفن في تعزيز القيم الإنسانية، زرع الثقة، تشجيع الصبر والمثابرة، وتمتين النسيج الاجتماعي للأطفال والعائلات.
موسيقى المسرحية للفنان عبد الحليم أو حلتم، في حين قام بتحريك الدمى: نغم لدادوة وخليل هاني وأحمد عبد الكريم ومؤيد الشعيبي وفاخر أبو عيشة وآلاء شاهين، وشهد بدوان. أما الأصوات فكانت للفنانين/ات: مرح ياسين وعبيدة صلاح وميساء الخطيب ونهلة جيوسي ومؤيد الشعيبي ونغم لدادوة ومرام جعفري وكرمل داود وسدين صافي وتالا أبو زنط، وسلين جعفري وميار دبشة. أما الديكور فكان لمنذر قريوتي وإياد زيدان. قام بتنفيذ الإضاءة عبد الله وشاحي. أما تنفيذ صناعة الدمى والأزياء فهن: منى أبو سليمان وباسمة حماد وعالية خليلي. فيما كانت إدارة خشبة المسرح لكريم فنونه ومرام جعفري. وهي من إنتاج المسرح الشعبي. وكان المسرح الشعبي قد أنتجها كمسرحية للأطفال تحت عنوان 'الطائر الحزين' عام 2006.