العدد الأول من «الجنوب» .. الحقيقة والأوجه الغائبة
الأربعاء / 25 / صفر / 1447 هـ - 19:31 - الأربعاء 20 أغسطس 2025 19:31
بعد نكسة عام 67 لم يعد هناك مجلات ثقافية ورقية مهمة في فلسطين، بعد الأفق الجديد والكرمل والكاتب، والشعراء، ثمة مجلة شهيرة ومهمة ما زالت تسطع في سماء الثقافة هي مجلة الدراسات الفلسطينية، ورغم أهمية المساحات المعرفية تراثا واقتصادا وثقافة التي تغطيها بجدارة، إلا أنها لم تتبنَ (كما يقود نقاد الصحافة الثقافية) الخط التحرري الثوري والصريح كما يجب، الخط الذي تبنته المجلة التي ستكون نموذجنا هنا في الحديث عن مفهوم الصحافة الحرة، أقصد بالمجلة معناها الثوري الشجاع الديمقراطي النقدي، تلك التي تبني فكرا نيرا أو تهدم فكرا ظلاميا، تلهم جيلا أو تخترع مصطلحات ومفاهيم ثورية، تدافع عن كرامة البلد وتكتشف أصواتا، تحمي قيما مهددة بالدمار وتتصدى لفساد.
صار الموقع الإلكتروني هو شكل المجلة الجديد، لا رائحة ولا لون، ولا ملمس، فقط شاشة إلكترونية تضج فيها قصائد وتبتسم لوحات، وتمشي الخيلاء أخبار ثقافية. ثمة تفاصيل كثيرة مربوطة في ذاكرتي بالمجلة الورقية، وبالعلاقة الجسدية معها، مثلا الرائحة التي كانت تفغم فمي بمذاق رهيب، فتعطيني ذلك الإحساس بالوجود غريب وقريب. قبل أيام كنت أتحدث مع أصحابي، أجمعنا جميعا أننا مشتاقون للمجلة الورقية التي كانت (تسحل) من أيدينا ونحن نقرؤها في سهرة آخر الليل، ونجدها تحت اللحاف في الصباح، وإلى العودة المحمومة إليها بعد فترة طويلة نبحث عنها بين رفوف المكتبة، تذكرنا بها نقاشات هنا وهناك، وإلى ضمان وجودها أمم أعيننا في رف المجلات فيما يشبه ذاكرة وفية.
أمامي الآن مجلة من النوع الذي ينتمي إلى زمن عقل المجلات النوعية القديم، القديم بالمعنى الحقيقي الطازج الأصيل الحميمي وليس الزمني، (الجنوب) المجلة الفلسطينية للدراسات التحررية هكذا سماها محرروها الذين يعتقدون أن المجلة التي لا تحرر فكرا ولا تحرض على تفكير جديد شجاع ولا تنحاز للعدل الغائب هي ليست مجلة بالمعني التحرري التحريري، بل هي مشروع من مشاريع ترويض الذائقة وقتل الميل للفكر النقدي وتجميد الواقع بل وشراؤه بغية تزويره، المجلة دورية، وهذا هو عددها الأول، وهي تصدر (عن دائرة سليمان الحلبي، للدراسات الاستعمارية، والتحرر المعرفي) وهذه الدائرة مجموعة تطوّعية مستقلة للبحث والتّعليم المجتمعيّ في فلسطين، تأسست عام 2011 في القدس، وتسمّت باسم الشّهيد سليمان الحلبي الذي اغتال الجنرال - كليبر - قائد الحملة الفرنسية على مصر.
المجلة لا تشترى ولا تباع، تنشر على نطاق محدود، في فلسطين وبصيغة إلكترونية أيضا على موقع باب الواد، وتعنى المجلة بالدراسات والممارسات والسياسات في ميادين النظرية والممارسة ذات العلاقة بالدراسات التحررية والبحث المحارب فلسطين وعربيا وعالميا مع تركيز خاص على قضايا الجنوب العالمي والقضايا العابرة للجغرافيا السياسية، وتركز مجلة الجنوب على الصراع العربي الصهيوني التي تقع فلسطين القلب منه.
في فهرس المجلة عدد من المساهمات المعرفية المهمة والجديدة في الطرح، في الافتتاحية يكتب الشاعر والباحث المفكر المهم د عبد الرحيم الشيخ:( تولد (الجنوب) بمخاض عادي، في أفق غير عادي، أفق كارثي، تخيم عليه، مقولة جنوبية الملامح مثيرة لذعر البشر، وتحذر من زمن الوحوش، الذي يصل احتضار العالم القديم بولادة العالم الجديد).
ثمة مساهمات لعدد من كتاب فلسطين في الحقل المعرفي الاجتماعي الاقتصادي السياسي: يكتب خالد عودة الله عن بيان جنوبي تحرري من فلسطين، ويفصّل الروائي العراقي سنان أنطون في مقاله عن الحراك الطلابي على هامش الجامعة، وفي زاوية (سجال) يكتب عبد الجواد عمر عن الرغبة في الهزيمة، وقي قسم الدراسات، يكتب قسم الحاج، عن تفكيك الخطاب الجامعي وبلال سلامة عن تدمير ثقافة الجامعة وباسم خندقجي عن الجرأة في إنتاج المعرفة، ووسام رفيدي، عن تحليل اجتماعي سياسي للخطاب الغربي.
في باب الترجمات، تكتب رنا بركات عن الاستعمار الاستيطاني والسيادة الأصلية، وفي إبداع، احتفت المجلة بإسهامات أدبية لشعراء من غزة، وفي باب (إعادة) يكتب سمير أمين عن الجنوب يتحدى العولمة، وثمة في باب (وثيقة) استعادة ثرية لحياة وبطولات القائد الفلسطيني الشجاع إبراهيم أبو دية بطل معركة القطمون في القدس مرفقة بأخبار الصحف عن استشهاده ونضاله في الخمسينيات، وصور له.
وينتهي العدد بمقال جميل وغني للدكتور عبد الرحيم الشيخ عن كتاب الناقد الكبير فيصل دراج (كأن تكون فلسطينيا شذرات من سيرة ذاتية).