أعمدة

سَكتاتٌ شعريّة

هوامش ... ومتون

في الفيلم الإيراني (أريد) للمخرج بهمن فرمانارا، يُصاب البطل، وهو كاتب، بصدمة نفسيّة نتيجة تعرّضه لحادث سير، وفي أحد مشاهده، يسمع طرقات على الباب، وحين يفتحه، يجد جارته تحمل طائرا، يسألها عن حاجتها، فتقول له «هذا الطائر توقّف عن التغريد، ولن يغرّد ما لم نغيّر المكان، ولأنني لا أجد في البناية أفضل منك، كونك كاتبا كبيرا، وإنسانا لطيف المعشر، لذا، أتمنّى منك أن تستضيفه، حتى يعاود التغريد، فأستعيده منك»، فيقول لها بأسى: «لكنني أنا نفسي أعاني من مشكلة عدم قدرتي على الكتابة» ومع ذلك تتركه معه، وبذلك تعطيه مفتاحا لشحذ الموهبة، لم يلتفت له، فتغريد الطائر يعادل، في المشهد، استعادة القدرة على الكتابة، والمداومة عليها، وهذا المفتاح يكمن في مغادرة المكان، والتحليق في فضاءات واسعة ، وملامسة حياة الناس التي هي مصدر الكتابة الأوّل . 

وخلال مشاركتي في مهرجان جرش العام الماضي، جمعني لقاء بالشاعر الكبير حميد سعيد، وحين سألته عن جديده، أجابني: منذ ثلاث سنوات لم أكتب حرفا واحدا، لا شعرا ولا نثرا، وقد لاحظت أن وراء هذه السكتة الشعرية يقف الإحباط العام، ورحيل رفيق عمره الشاعر سامي مهدي(1940-2002م) الذي كان يمثّل عاملا محفّزا له، هذا من الجانب الشخصي، أمّا بالنسبة للمشهد العام، فقد تراجع دور الشعر، وطغى شعور لدى حاملي لوائه، بعدم قدرته على تغيير الواقع الذي صار هشّا بفعل تراجع القيم، وهيمنة منطق القوّة، وسطوة المال، واستفحال الشرّ، واختلال الموازين، فكأنّ الناس استغنوا عن الشاعر الذي لم يعد صوته مسموعا، والشعر نشاط يرتبط بالإنسان، وللإنسان حالات، وفي بعض الأحيان، يتراجع هذا النشاط، وهذا التوقّف يثير قلق الشعراء خشية أن تكون المنابع قد جفّت للأبد، مرّ كثيرون بمثل هذه الحالة، ولكلّ شاعر طرائقه في استعادة قدراته على الكتابة، فالبعض يقرأ بكثافة، فيستعيد صلته بالشعر، أو يخوض تجارب حياتية محفّزة، ويقال إن الشاعر الأموي الفرزدق، اعتاد حين تجفّ قريحته، ويحتبس الشعر في صدره يركب ناقته، ويجوب الصحراء منفردا، يدور في الخرائب، والأماكن الخالية، ويظلّ على هذا الحال حتى تنفتح قريحته، أما (شيطان) الشاعر الأموي الفرزدق (توفي في البصرة سنة 728م)، فحين كان يجافيه يسعى إليه، وحدث أنّ أحدهم هجاه، فحاول الردّ عليه، فلم يتمكن، لاحتباس الشعر، فوجد نفسه في موقف حرج، فلا هو يستطيع الردّ ولا كرامته تسمح له بتجاوز الإساءة، لذا قرّر أن يستدعي شيطانه بنفسه، فاعتلى ناقته مع الخيط الأوّل للفجر، وقطع الصحراء، حتّى وصل جبل ريّان الكائن في المدينة المنوّرة، وحين وصل إلى هناك، يقول: ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم أبا لبنى، فجاش صدري كما يجيش المرجل ..ثم عقلتُ ناقتي وتوسّدتُ ذراعها، فما قمتُ حتى قلت مائة وثلاثة عشر بيتا». 

وإذا كنّا اليوم نحاول أن نجد تفسيرا منطقيّا لهذه الظاهرة، ففي أيام العرب ارتبط الشعر بالسحر، ولكلّ شاعر لدى العرب شيطانه، الذي يسكن في (وادي عبقر) الذي لا يوجد تحديد لموقعه، فقد قيل إنه في نجد، وقيل في اليمن، وعلى الأرجح لا وجود له إلّا في مخيّلة الشعراء، يقابل ذلك لدى شعر اليونان ربّات الشعر أو عرائسه، وكان شيطان الشاعر الجاهلي الأعشى (570-625م) الذي يدعى (مسحل) على وفاق معه، فقد ذكر أنه كريم معه، وهو شريكه في الكتابة، إذ ينطق ما يمليه عليه بقوله: 

وما كنت ذا خوف ولكن حسبتني 

إذا (مسحل) يسدي لي القول أنطقُ 

شريكان في ما بيننا من هوادة 

صفيّان إنسي وجنيّ موفّقُ 

ومن الطريف أنّ الفرزدق يرى أنّ لكلّ شاعر شيطانين، هما: (الهوبر) الملهم للشعر الجيد، الذي يشنّف الأسماع، و(الهوجل) الذي لا يأتي منه سوى الرديء، فإذا انقطع شيطان الشعر، عن زيارة صاحبه، جفّت قريحته، وإذا كان شيطان الشاعر الفرزدق قد جاد عليه بقصيدة طويلة، أسهمت في فكّ حبسة لسانه عن قول الشعر، فقد وجد الشاعر الكبير حميد سعيد في ما وصل إليه حال الناس في (غزّة) محفّزا قويّا للعودة لكتابة الشعر، فقد كتب قصيدة جديدة عنوانها «الموت في غزّة» وفيها يطلق صرخة احتجاج بوجه الضمير العالمي الذي صمت عمّا يجري في غزة: 

اختفت البيوت .. وغادرَ الخبزُ المدينةَ.. 

ضيَّعَ الطُرقَ التي كانت، إلى الناس .. العجينْ 

الجمرُ في الأرحامِ .. يخرجُ مُستَفَزا.. 

مَنْ سيأخذهُ إلى مشفى ؟! 

وقد هدمَ المغيرون المشافي..» 

وقبل أن ينشرها، بعثها للصديق كرم نعمة ومعها رسالة جاء بها « منذ سنوات لم أكتب شطراً واحداً، غير أنّ غزّة أعادتني إلى الشعر فكتبت هذه القصيدة» 

التي فيها يقول «للموت سطوتهُ ولكنَّ الحياة أقوى إذا اشتبكا» 

نعم للموت سطوته، ولكن الشعر يستمدّ وهجه من نبض الحياة التي يدافع عنها، لذا سيبقى نهر الشعر متدفقا، ويظلّ الشاعر مغرّدا مثل طائر محلّق. 

عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب عماني