مستعمرة النمل تملك ذاكرة لا يمتلكها أفرادها
الأربعاء / 25 / صفر / 1447 هـ - 10:01 - الأربعاء 20 أغسطس 2025 10:01
ديبورا م. جوردون / ترجمة - نوف السعيدي -
كدماغ، تعمل مستعمرة النمل دون تحكّم مركزي. كلاهما - أي الدماغ ومستعمرة النمل - عبارة عن مجموعة تستخدم تفاعلات كيميائية بسيطة يُولد حاصلها السلوك العام، سواء تكونت هذه المجموعة من خلايا عصبية أو نملات. يستخدم الناس أدمغتهم للتذكر، فهل يمكن لمستعمرات النمل أن تفعل شيئًا كهذا؟ يقود السؤال إلى سؤال آخر: ما هي الذاكرة أصلًا؟ بالنسبة للإنسان، فالذاكرة هي القدرة على استرجاع شيء حدث في الماضي. نطلب الشيء ذاته من الحواسيب عندما نسألها إعادة إنتاج أفعال سابقة. هذا الخلط بين فكرة الحاسوب كدماغ والدماغ كحاسوب جعلنا نتصور ”الذاكرة“ باعتبارها شيء أشبه بالمعلومات المخزنة على قرص صلب.
نعلم أن ذاكرتنا تعتمد على ”تغير ما“ يحدث عبر تحفيز مجموعة من الخلايا العصبية المرتبطة ببعضها البعض، وأنها تُعزَّز بطريقة ما أثناء النوم، وأن الذاكرة الحديثة وطويلة المدى تربط دوائر مختلفة من الخلايا العصبية المتصلة. لكن لا يزال هناك الكثير مما لا نعرفه عن كيفية تآلف هذه الأحداث العصبية معًا، أو ما إذا كانت هناك ”تمثيلات“ محفوظة نستخدمها للحديث عن أمر وقع في الماضي، كما لا نعرف كيف يهيء لنا الاستمرار في أداء مهمة تعلمناها سابقًا مثل القراءة أو ركوب الدراجة.
أي كائن حي يمكنه أن يُظهر أبسط أشكال الذاكرة: أي إظهار تغيّر ناتج لا عن شيء يحدث له الآن بل عن أحداث ماضية. انظر مثلًا إلى شجرة فقدت غصنًا؛ إنها ”تتذكر“ من خلال الطريقة التي تنمو بها حول موضع الجرح، تاركة آثارًا في نمط اللحاء وشكل الشجرة. قد تستطيع أنت أن تصف آخر مرة أصبت فيها بالإنفلونزا، وقد لا تستطيع، لكن جسمك ”يتذكر“ بطريقة ما، لأن بعض خلاياك الآن تحمل أجسامًا مضادة أو مستقبلات جزيئية تتطابق مع ذلك الفيروس تحديدًا.
بالمثل، يمكن للأحداث الماضية أن تغيّر سلوك النمل الفردي وسلوك المستعمرة ككل. على سبيل المثال، يتذكر النمل الحفار (أو النجار) - إذا ما قُدّم له طعام سكّري - مكان الطعام لبضع دقائق، وهو غالبًا ما يعود إلى الموقع حيث وجده. أما نمل صحراء السّاحل الإفريقي (النمل الصحراوي) الذي يتجوّل في الصحراء القاحلة بحثًا عن الغذاء، فيبدو أنه قادر على تذكر المسافة التي قطعها أو عدد خطواته منذ آخر مرة كان فيها في العش.
مستعمرة النمل الأحمر الخشبي تتذكر نظام مساراتها المؤدية إلى نفس الأشجار سنة بعد أخرى، رغم أن النملة لوحدها لا تتذكر ذلك. في غابات أوروبا، يجوب النمل الأشجار العالية بحثًا عن إفرازات حشرات المنّ التي تتغذى بدورها على الشجر. أعشاشها عبارة عن أكوام ضخمة من إبر الصنوبر الراسخة في المكان لعقود، تتعاقب أجيال النمل على استيطانها. كل نملة تسلك كل يوم المسار نفسه نحو الشجرة نفسها. في الشتاء الطويل، تتجمع النملات تحت الثلج. وما إن يحل الربيع، تخرج نملة شابة تتقدمها نملة أكبر ليمشيا معًا المسار المعتاد، وذلك حسب ما أظهر عالِم النمل الفنلندي راينر روزنغرين Rainer Rosengren. وحين تموت النملة الكبيرة، تكون النملة الصغيرة قد تبنّت ذلك المسار وكأنه مسارها الخاص، وبهذا تتذكر المستعمرة أو تعيد إنتاج مسارات العام السابق.
البحث عن الغذاء في مستعمرة النمل الحصّاد يتطلّب شيئًا من الذاكرة الفردية. ينصب بحث هذا النوع من النمل على البذور المتناثرة، وهي لا تستخدم إشارات الفيرومونات؛ فحتى وإن وجدت النملة بذرة، فلا فائدة من استدعاء أخريات فمن غير المرجح وجود بذور أخرى بالقرب منها. يسلك النمل مسارًا يمتد حتى 20 مترًا بعيدًا عن مسكنها، ثم تخرج كل نملة عن المسار لتبحث منفردة عن الغذاء. عند العثور على بذرة، تعود النملة إلى المسار - لعلها تستخدم زاوية ضوء الشمس كدليل - وتعود للعش متبعة تيار النمل الخارج. في العش، تضع النملة بذرتها، ويعتمد خروجها مجددًا من البيت على مدى التحفيز المتمثل في معدل لقائها بالنملات العائدات بالغذاء. وفي رحلتها التالية، تغادر المسار تقريبًا من النقطة نفسها للبحث مرة أخرى.
كل صباح، يتغير شكل منطقة البحث عن الغذاء في المستعمرة، مثل الأميبا التي تتمدّد وتنكمش. لا تتذكر أي نملة مكان المستعمرة في هذا النمط اليومي. تنحو كل نملة خلال رحلتها الأولى إلى الخروج أبعد قليلًا عن بقية النملات المتجهات في نفس الاتجاه، فتتشكل موجة تمتد أكثر مع مرور اليوم، ثم تنحسر تدريجيًا، حيث يبدو أن النمل الذي يقوم برحلات قصيرة نحو أماكن قريبة من العش يكون آخر من يتوقف.
من يوم لآخر، يتغير سلوك المستعمرة، وما يحدث في يوم يؤثر على اليوم التالي. أجريت سلسلة من تجارب الإرباك: وضعت أعواد أسنان تضطر شغالات النمل لإزاحتها، أو أغلقت المسارات على نحو يضطر النمل الباحث عن الطعام لبذل جهد أكبر، أو أحدثتُ تشويشاً حاولتْ دوريات الحراسة صده. أثّرت كل تجربة مباشرة على مجموعة واحدة فقط من الشغالات، لكن نشاط المجموعات الأخرى تغيّر أيضًا، لأن كل مجموعة تقرر نشاطها بناءً على معدل لقاءاتها القصيرة مع المجموعات الأخرى. وبعد تكرار التجربة لبضعة أيام، استمرت المستعمرات في التصرف كما لو كانت تحت وضع الإرباك حتى بعد زواله. إذ غيّرت النملات مهامها ومواقعها داخل العش بناء عليه، فاستغرق الأمر وقتًا حتى تعود أنماط اللقاء إلى وضعها الطبيعي. لم تتذكر أي نملة شيئًا، لكن المستعمرة ككل تذكرت.
تعيش المستعمرات من عشرين إلى ثلاثين عامًا، وهي مدة حياة الملكة الوحيدة التي تنتج كل النملات، بينما تعيش النملة سنة واحدة على الأكثر. استجابةً للإرباك، كان سلوك المستعمرات الأكبر والأقدم أكثر استقرارًا من المستعمرات الأصغر والأحدث، وأكثر قدرة على الحفاظ على التوازن: فكلما كانت المشوشات أشد، زاد تركيز المستعمرات الأكبر على البحث عن الغذاء بدلًا من التعامل مع الإزعاجات، بينما كانت المستعمرات الأصغر أكثر تفاعلًا مع شدة الإرباك. باختصار، المستعمرات الأكبر سنًا تتصرف بحكمة تفوق المستعمرات الأصغر، رغم أنها لا تحوي نملًا أكبر أو ”أكثر حكمة“ على المستوى الفردي.
يقرر النمل ما سيفعله تاليًا بناءً على معدل لقائه وشمّه لباقي النملات، أو الإشارات الكيميائية التي يخلفنها. فيما تستخدم الخلايا العصبية معدل التحفيز الذي تتلقاه من خلايا أخرى لتقرر ما إن كانت ستنشط. في الحالتين، تنشأ الذاكرة من تغيّر في كيفية اتصال الأفراد - سواء كانوا نملًا أو خلايا عصبية - وتحفيزهم لبعضهم البعض. من المرجّح أن سلوك المستعمرة ينضج لأن حجمها يغيّر معدلات التفاعل بين النملات. ففي المستعمرة الأكبر، تزيد فرص كل نملة في الالتقاء بأخريات مقارنة بالمستعمرة الصغيرة، والنتيجة ديناميكية أكثر استقرارًا. ربما تتذكر المستعمرات اضطرابًا سابقًا لأن الاضطراب غيّر مواقع النملات، مما أدى إلى أنماط جديدة من التفاعل، ما يُحتمل أن يولد سلوكًا جديدًا في الليل حتى عندما تكون المستعمرة غير نشطة، تمامًا كما تُعزز ذكرياتنا أثناء النوم. إن تغيّرات السلوك الناتجة عن أحداث ماضية ليست مجرد مجموع بسيط لذكريات النمل الفردية، تمامًا كما أن تغيّرات ما نتذكره ونقوله أو نفعله ليست مجرد مجموع لتحولات خلية عصبية تلو الأخرى. ذكرياتك أشبه بذاكرة مستعمرة النمل: لا تتذكر الخلية، لكن دماغك ككل يفعل.
ديبورا م. جوردون Deborah M Gordon هي أستاذة علم الأحياء في جامعة ستانفورد تهتم بالسلوك الجمعي للحيوانات والحشرات وخصوصًا سلوك مستعمرات النمل. نُشر المقال الأصلي على مجلة أيون.