شروق أبدي لعقل صاف
الاحد / 22 / صفر / 1447 هـ - 20:13 - الاحد 17 أغسطس 2025 20:13
بقاءُ شريكين معا لسنوات، أمرٌ غير يسير البتة، وفي الحقيقة نحنُ قلّما نتحدثُ عن ذلك، فالحبّ والعِشرة والتفاهم والروابط بين اثنين، تمدُ يديها دوما لتشتبك -وعلى نحو عجائبي- بالألم والوخز! هكذا يمضي زورقُ الشريكين مضطربا فوق نهر الحياة بين مسرات وندوب.
ولذا ففكرة استئصالُ اللبّ العاطفي بين شخصين قررا أن يستريحا قليلا من عذابات التذكر، تبدو فكرة مُرعبة حقا! ولكن قد يرغبُ بهذا أحد الطرفين عندما يُصبحُ التذكرُ مُضجرا، واللومُ مُستيقظا ككابوس شرس، آنذاك يغدو شطب أحدهم من حيز التذكر أكثر رأفة ورحمة، تماما كما قرر بطلا فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind، جيم كاري وكيت وينسلت، الهروب من ألم الحبّ وأوجاعه عبر النسيان الأبدي.
الفيلم يتجاوز حدود قصّة حبّ صغيرة، تنتهي بافتراق طرفين، إذ يتأملُ الفيلم في طبيعتنا البشرية وعلاقتنا بالشريك. لقد حاول البطلان قبل أن تخمد نيران ذكرياتهما في فجوة النسيان، أن يتمسكا بكل ما هو ثمين بينهما، وكأنّهما أدركا -وعلى نحو متأخر- أنّ خبرتهما الإنسانية قد صُقلت في حقول العذابات تلك. ولذا وفي منتصف عملية المحو، عارض البطل بإصرار مسح ذكرياته، وكأنّه وعلى نحو مباغت أدرك أنّها علامة كافية لفهم ذاته، وأنّه كإنسان لا يمكن لشيء أن يُشكله كما قد تفعل تلك الذكريات، لذا وتحت آلة المحو الصماء حاول عديد المرات التشبث بشيء ما قبل أن يجد نفسه مُجردا من أي معنى!
أثناء مشاهدة الفيلم ملأتني الأسئلة: هل سيغيرنا شطب ذكرى من ذكرياتنا -بشكل انتقائي- إلى الأبد؟ هل سنكون نسخة أصلية من أنفسنا أم شيئا مُشوها؟ وهل يمكن لأي شريكين تبني «المحو» وصولا إلى حالة مثالية بينهما؟ أليست الذكريات بكل فداحتها جزءًا من رصيد خبرتنا، أليست جزءا من نسيج الزمن الذي نقطعه في رحلة الحياة المعقدة؟ من المؤكد أنّ النسيان يمنحُ حماية مؤقتة، لكنه يُقوض المعنى، فالألم جزءٌ لا يتجزأ من تجربة الحبّ التي نصبو إليها.
في الفيلم يجد الحبيبان نفسيهما يختاران بعضهما من جديد -بعد المحو- وكأنّ الحبّ يلتقط الذبذبات ذاتها رغم القرارات العاطفية المتعجلة. بينما الكثير من التجارب الواقعية تسعى لإنهاء العلاقة عند أول عقبة، وكأن المحو أو النسيان خيار سهل!
يُذهلني حقا بعض الأجداد والجدات، أولئك الذين لم يتعلموا في المدارس ولم يقرأوا القصص الرومانسية، ولم يذهبوا إلى دور السينما، ولكنهم يملكون فيضا من الأحاسيس مع شركائهم. ويمكن لأحدنا أن يلحظ ذلك في نظراتهم وطرق تعبيرهم لبعضهم، وفي العلامات والخطوط الظاهرة على خريطة تجاعيدهم، تلك التي تُجسد الحياة التي اختبرها اثنان في السراء والضراء.
ولكن السؤال الأهمّ: هل تغير الحبّ؟ هل اكتسب معاني مغايرة لتلك المألوفة في قواميسنا؟ من وجهة نظري القاصرة أشاهد -بعض الحبّ- موضوعا على الرف، نشاهده من وراء فاترينة زجاجية، وهو أقرب لسيلان السوشيال ميديا التي ترسمُ ملامحه، وتمنحه لونه وطعمه وسماته الجديدة. بالتأكيد ليس من حقي أن أطلق حكما لا تدعمه الدراسات والإحصائيات، إلا أنّي سأستعين بمقولة لمارسيل بروست: «العلاقات تزدهرُ في التجربة»، لكن التجربة هنا مُعلبة، ويضافُ إليها الكثير من المواد الحافظة!
في نهاية الفيلم يختارُ الشريكان المكوث معًا رغم معرفة عيوب بعضهما، وكأنهما بذلك يؤكدان أنّ الحبّ الحقيقي يتجلى في المشقة والاستعداد لتحمّل الألم معا.
مسح الذكريات قد يجعلنا نعتقد أننا لم نعبر الألم يوما، لكن ما هي الحياة خارج الندوب؟ وكيف تتصلبُ العلاقات دون أوجاع! فرغم ما تعلمناه من حياتنا الواقعية والأفلام والقصص والأساطير، سيظل كل واحد منا راغبًا في تذوق ثمرته الفردية المحفوفة بالشوك والمخاطرة.
في -الحدود الآمنة لحياة طبيعية- علينا أن نتقبل بعضنا وأن نواجه عثراتنا كجزء من نضجنا الإنساني، لا أن نلهث في طريق عكسي لمحاولة تدمير ذواتنا. فالمعنى كامنٌ في مخاض الألم، والحبّ يتوهج في استعدادنا للصفح شريطة أن يتشاطر الطرفان المهمة. وكما يقول أوسكار وايلد: «الحبّ الحقيقي هو ألم مستمر، لكنه الألم الذي يجعل الحياة تستحق العيش».
هدى حمد كاتبة عُمانية ومديرة تحرير مجلة «نزوى»