جنوبٌ يتسع كل عام ونوارس لا تخشى الجمر
الأربعاء / 11 / صفر / 1447 هـ - 18:48 - الأربعاء 6 أغسطس 2025 18:48
تبدو الرحلة إلى محافظة ظفار جوا رحلة عائلية، حتى وإن كنت تسافر وحيدا. الأطفال يركضون ويصرخون في كل صوب وحدب، الحقائب التي لا تراها إلا في البيوت تسافر أيضا، كل شيء في رحلة الذهاب إلى الجنوب يبدو كما لو كنت في بيت الجدة، لكنه بيت يطير في السماء.
محافظة ظفار لم تكن خضراء هذه المرة، ليس لأنني زرتها في منتصف يوليو حيث المكان يأخذ في الاخضرار بالتدريج وليس لأن الروابي الخضراء غبراء، ولكن لم يحدث قط في مواسم الخريف الماضية أن دخلنا قلاعا أو حصون أو بيوتا تراثية. فكان اللون الأغبر للمباني القديمة وسط الاخضرار سحره الخاص، وأرض الجنوب أكثر من مجرد روابٍ خضراء.
إذا كنت اتخذت من الخريف عادة سنوية، ولكنك رغم ذلك تطأ مرباط للمرة الأولى، فما الذي كنت تفعله طوال السنوات الماضية؟! لا أعرف في الحقيقة، لكني عندما وضعت جدول الرحلة فكرت أن أخصص اليوم الأول لمكان أزوره أول مرة، أما الأماكن المعتادة فوضعتها في ذيل القائمة. ماذا يعني أن تضع جدول الرحلة؟! أن تقود الرحلة دون أن تكون خلف مقود القيادة.
في الظهيرة الغائمة كان حصن مرباط يقف وحيدا، بينما يحج الناس إلى مطعم الجعيدي. مبخر لبان وتمر وقهوة عند مدخل الحصن، وفي السطح: مرباط، المباني القديمة والآثار التاريخية، كان رائعا أن تُركَت أنقاض البيوت المتهدمة على ما هي عليه، كالبيت القديم الذي يواجه بحر مرباط، سقط كل مافيه عدا نافذة وحيدة، تجعلك تشك لوهلة أن طريقة تداعي ذلك البيت كان مخططا لها، وإلا لمَ يسقط كل شيء وتبقى النافذة؟ في النهاية وأنت تغادر مرباط القديمة تدرك أنها للمشي وليست للتجول راكبا في سيارة. بعد حصن مرباط وفي أيام متفرقة زرنا حصن طاقة، وبيت كوفان وبرج العسكر، ألا يبدو الأخيران كأسماء خرجت من رواية ما؟!
النوارس في مرباط لا تشبه نوارس مطرح إلا في شكلها، وأظن أن الطيور أو الحيوانات في الأماكن ذات الأجواء اللطيفة تختلف في سلوكها عن طيور وحيوانات الأماكن الحارة حتى لو كانت من الفصيلة نفسها، كسناجب أدنبرة الودودة، والسناجب التي تقطن شاطئ السيب لتقطع أسلاك الكهرباء، تبدو النوارس في مرباط أكثر تآلفا مع الناس، تقترب بلا خوف وتشاركك طعامك وتكاد تحط فوق رأسك وحتى شوّايتك دون أن تخاف من الجمر. نوارس 'خيصة دخيذيل' -التي يأتيها قلة من الناس- تقيم حفلة صاخبة وهي تحوم حولك، من يدري ؟ لعلها اكتسبت ذلك من هواء مرباط الذي لا يهدأ.
لا يذهب كثر إلى ضلكوت، بعيدة وطريقها ملتوية يمكن وصفها مبالغةً بالأفعوانية، زرت هذه المدينة مرتين هذه المرة، لسببين: الأول أننا أضعنا الطريق المؤدي إلى شاطيء الفزايح والثاني أننا لم نعرف أين يكون شاطيء عفول المخفي كما يقولون. أحب الجبل أكثر من البحر، لذلك كان مستحيلا أن أفوت جبلا يحتضن بحرا ، وأي بحر؟! بحر العرب.
في الطريق إلى 'شاطيء الفزايح'، أوقفتنا عائلة هندية وطلبوا أن يرافقونا إلى المكان، كانت السيدة الحيدرابادية غاية في الحماس، واكتشفتُ أن الأماكن التي نزورها أول مرة تخلق حماسا مضاعفا إذا زرتها مع أشخاص جدد أيضا.
كان اليوم الذي زرنا فيه أشجار التبلدي العملاقة وعين حشير مشمسا بما يكفي لشيّ بعير، الشمس وحدها أكبر متحكم بالمزاج العام في محافظة ظفار، لكن المسار الجبلي باتجاه الأشجار العملاقة كان باردا قليلا بفضل الظلال، ولأن الرذاذ لم يلامس كثيرا تلك البقعة التي تسكنها الأشجار العملاقة كان المسار جافا، وسهلا للوصول إلى النهاية حيث الأشجار تزداد حجما كلما توغلت -حسب ما قيل لي-، لكني لم أكمل لأن رجلا كان يقف عند بداية المسار قال لي: 'شي ثعابين داخل حافلي عمرك'، لكن ما أحسست به في منتصف المسار لم يكن حفيفا بل عواء.
في كل عام تبدو محافظة ظفار كأرض تتوسع، كيف يمكن أن يكون هناك مكان جديد نسمع عنه لأول مرة كل عام؟! هكذا خطر ببالي كل أولئك الذين قرروا أن يسافروا لأوروبا أو شرق آسيا، متخلين عن عادتهم السنوية فقط لأنهم ملوا من الأماكن نفسها كل عام.