أكاذيب الصهيونية.. «الأكاذيب الأصولية 1»
الثلاثاء / 10 / صفر / 1447 هـ - 22:04 - الثلاثاء 5 أغسطس 2025 22:04
من نافلة القول التمييز بين اليهودية والصهيونية، ولكن هذا التمييز يجب التأكيد عليه دائمًا؛ لأن بعض الناس يخلطون بينهما، وأكثرهم لا يدركون العلاقة المعقدة بينهما رغم اختلافهما التام من الناحية الأصولية. ويمكن القول في صيغة منطقية بسيطة للغاية: «ليس كل يهودي صهيونيًّا»: فاليهودية هي ديانة مستمدة من التوراة ومن التعاليم الدينية الروحية لدى أنبياء اليهود، فضلًا عن المرويات والأساطير والحكايات الخرافية لدى شعب اليهود على مر العصور. أما الصهيونية فهي حركة سياسية قومية استعمارية قد أسسها هرتزل سنة 1896 بهدف إنشاء دولة لليهود في فلسطين، وهي حركة نشأت بدعم إنجلترا، وبدأت تتخذ إجراءات عملية على الأرض بعد وعد بلفور الشهير سنة 1917، وهو ما أدى في النهاية إلى إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948. ونظرًا للاختلاف بين هذين المفهومين، فإن كثيرًا من اليهود لا يؤمنون بهذه الصهيونية السياسية، بل يرونها مضادة للروح الدينية اليهودية وتعاليمها؛ ولذلك فقد عارض كثير من الحاخامات والمتدينين هذه الحركة منذ نشأتها وحتى الآن. وبعبارة أخرى يمكن القول إن اليهود الرافضين للصهيونية هم أولئك الرافضون للقراءة السياسية للتوراة كبديل عن القراءة الروحية للكون لدى الأنبياء اليهود. فالحقيقة أن الصهيونية هي نزعة قومية استعمارية تحاول أن تجد تأصيلًا سياسيًّا لها في الديانة اليهودية ذاتها. وهذا هو الأصل في اتخاذ هذه الحركة نزعة أصولية تتذرع بتأويلات مغلوطة وبأكاذيب وأوهام، أعني تحاول تأصيل الصهيونية في الدين نفسه، أي فيما يُعرَف بالصهيونية التوراتية. والواقع أن هذا هو شأن كل نزعة أصولية تسعى إلى تأصيل كل ما هو دنيوي فيما هو ديني. وبما أن هذه الحركة قد اقترنت منذ نشأتها بالأكاذيب، فسوف أحاول في هذا المقال الكشف أولًا عن الأكاذيب الأصولية، لانتقل بعد ذلك في مقال تالٍ إلى الكشف عن الأكاذيب الخاصة بالصهيونية السياسية الخالصة في عصرنا.
«أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»: تلك هي الأكذوبة الأولى التي روجت لها الصهيونية، وهي تعني أن أرض فلسطين تخلو من أي شعب حقيقي في مقابل اليهود الذين هم شعب بلا أرض؛ ولذلك فإن هذا الشعب اليهودي يجب أن يستوطن أرض الميعاد التي تمتد من وادي العريش (أي من نهر النيل) إلى نهر الفرات. يستخدم اليهود الوعد الإلهي دون تأويل لسياقه ونبوءته الرمزية باعتباره وعدًا من الرب لجماعات من البدو الرحل بأن ينعم عليهم بالاستقرار في أي من المناطق الآهلة الصالحة للسكنى؛ ومثل هذا الوعد- كما يقول الفيلسوف جارودي- كان شائعًا في بلاد ما بين النهرين لدى الحيثيين والمصرين القدماء، إذ نجد مدونًا على المسلة الكبرى في الكرنك رسالة من الإله إلى تحتمس الثالث تبارك انتصاراته بالقول: «أمنحك هذه الأرض بامتدادها في جميع الجهات لكي تكون شرعًا لك» (الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ص. 45). والحقيقة أنه يمكننا القول بأن الديانات عادةً ما تخاطب معتنقيها باعتبارهم الأسمى ما داموا يتبعون تعاليمها، وبأن الإله سيجازيهم عن ذلك خير الجزاء. ولذلك، فإن مثل هذه الوعود الدينية ينبغي فهمها أو تأويلها في سياقها التاريخي باعتبارها وعدًا إلهيًّا لشعب ما في عصر ما وزمان ما.
كما أن ترويج مقولة «شعب الله المختار» لا ينبغي فهمها باعتبارها حكمًا إلهيًّا مطلقًا يصدق في كل زمان ومكان، وإنما باعتبارها مرتبطة بسياق زماني معين. وعلى سبيل المثال: عندما يؤكد القرآن على هذه المقولة بقوله تعالى» «وإني فضلتكم على العالمين»؛ فإن كلمة «العالمين» هنا تعني كل الشعوب الأخرى التي وعد الله اليهود بأنهم سيعلون عليهم؛ فإن هذا الحكم يخص اليهود قبل نزول القرآن، ولكنه ليس مطلقًا وإنما مشروط بالتزامهم الديني؛ ولذلك فإن وعد الله وتفضيله لهم يصبح بعد ذلك وعيدًا بالعقاب. وعلى النحو نفسه نجد أن القرآن عندما يصدر حكمًا على أمة الإسلام بقوله تعالى: «كنتم خير أمة أُخرجت للناس»، فإن هذا الحُكم ليس مطلقًا، وإنما هو حُكم يتعلق بمن آمنوا بالإسلام واعتنقوه في عصر ما، ولكنه ليس مقصودًا ليسري على المستقبل (ولذلك قال الرسول الكريم: « يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل..»). والمراد مما تقدم هو التأكيد على أن توظيف الدين أو تأويله بحيث يخدم مصالح وأجندات سياسية، هو نوع من الأكاذيب التي يُرَاد الترويج لها وإضفاء نوع من القداسة عليها.
ومن الأكاذيب التي تروج لها الصهيونية أن «القدس عاصمة أبدية لليهود»! والحقيقة أن كلمة «صهيون» تتردد كثيرًا في التوراة، لتشير إلى القدس ذاتها. وتشير الأسطورة الدينية إلى أن صهيون هو حصن يعلو جبل بقرب المسجد الأقصى يُعتقَد أن الإله يسكنه؛ لأن داود بعد أن استولى على الحصن أعاد بناء الهيكل الذي يسكنه الرب ومنه يحكم العالم، «لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ، اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ» (مزمور 132: 13). ولكن التأويل الكاذب هو ذلك الذي يستخدم هذه الأصول التوراتية والأساطير الدينية حولها لتبرير الاحتلال الصهيوني وعملية الاستيطان كمشروع سياسي قومي نشأ في أوروبا. ومن المهم التأكيد في النهاية على أنه من الخطأ القول بأن «كل الصهاينة يكونون يهودًا»؛ لأن بعض الصهاينة ليسوا يهودًا، إذ إن الصهاينة هم كل أولئك الذين يؤمنون بالمشروع الصهيوني أو يدافعون عنه من أجل أهداف سياسية تخدم الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. ولذلك فإننا لا ينبغي أن ننسى ما قاله الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن عند نزوله من الطائرة في تل أبيب مباشرة بعد أحداث السابع من نوفمبر 2023: «إن المرء لا يحتاج أن يكون يهوديًّا لكي يكون صهيونيًّا».