الرواية العربية وإرث الهزائم
الثلاثاء / 10 / صفر / 1447 هـ - 20:43 - الثلاثاء 5 أغسطس 2025 20:43
والقُطب الثاني الجاذب، المُغري للرواية العربيّة، هو الواقع بوقْعِه وكثْرَة تعقيداته، وبكلّ حمولاته المعرفيّة، والسياسيّة، والثقافيّة والاجتماعيّة، الفرديّة والجمعيّة. الواقع فاعلٌ دافعٌ حاملٌ لحكايات يتلقّطُها الروائيّ العربيّ وينسج منها عوالمه التخييليّة. ما علاقة كلّ هذا، بموضوع أدب الكارثة. الأصلُ في النقد العربيّ وفي شقٍّ من خطاب المثقّفين العرب، أنّ خطابهم قائم على الأصداء، ما زلنا عيالاً على مفاهيم الغرب نتلقّاها دون إدراكٍ لخطورة الخطاب. أدب ما بعد الكارثة، هو سياقٌ تاريخيّ نقديّ للخوض في سرديّة تأسّست ما بعد الحرب الباردة، وهي سرديّة تعي مخاطر التملّك النوويّ، والتنابز بامتلاكه، والتهديد باستعماله، وتعي جيّدا مسار الكون بعد جنون جهود البشر العلميّة التي اتّخذت مسار تدمير الكون، والقضاء على البشر والحجر.
ما زلتُ أرى غلبةً سائدة للتيّار المحفوظيّ في الرواية، وهو التيّار الذي يقرأ الواقع في ظاهره، ولا يُقيم سرديّة تتعمّق أبعاده وممكن نتائجه، أليس ما نعيشه اليوم من أسئلة هيمنة التكنولوجيا والرقميّات وسيطرتها على البشر، هو ما عبّرت عنه رواياتٌ غربيّة عديدة؟ ألا يُذكِّرُنا حُطام غزّة ونحن نرى مشاهد الدمار بأفلام الخيال العلميّ وبروايات صُنّفت على أنّها رواياتٌ تتمثّل ما بعد الكارثة، تتصوّر «اليوم التالي»؟ المُدن الخالية، الخاوية على عروشها، والمجاعات وأكل البشر للبشر، وإفناء الإنسان، ألم تكن هذه مشاريع روائيّة لسرديّات ضخمة، حكاها بول أوستر في «في بلاد الأشياء الأخيرة» وكورماك مكارثي في «الطريق»؟ الرأي عندي أنّ المجتمعات الغربيّة لها نسقٌ مختلف، وهي داخلة في تصوير عوالم وفقا لقراءة خاصّة لواقعها، وهي قراءة تتيح لهم الدخول في مثل هذه المواضيع، أمّا نحن فما زلنا في ارتباط وثيق مع قضايا نلوكها منذ قرن من الزمان، قضايا حول القوميّة أو القطريّة، الرأسماليّة أو الاشتراكيّة، المدارس الخاصّة والمدارس العموميّة، الحريّة الشخصيّة والعامّة، المرأة والرجل، ما زلنا نخوض في الواقع قضايا تختلف جذريّا عن القضايا التي نعيشها ذهنيّا وثقافيّا، ولذلك، ما زالت رواياتنا محفوظيّة، أقرب إلى طريق نجيب محفوظ، وإن توفّرت روايات تفاعلت مع «ما بعد الكارثة» مثل «باب الشمس» لإلياس خوري، و«فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، غير أنّنا اليوم، بعيدًا عن فكرة «الصدمة»، لأنّ العقل العربيّ مليءٌ بصدمات عددٍ، في حروبٍ متتالية، وإخفاقات وفيرة، وهزائم لا تُحصَى، وبعيدًا عن أيديولوجيا ما بعد الكارثة، (وهي مفاهيم أساسيّة في النقد الثقافيّ، لا أفضّل استعمالها، وإنّما أنبّه إلى شحنتها الإيديولوجيّة العرقيّة والسياسيّة والعنصريّة)، التي أُقيمت على أيديولوجيا ضرورة الكارثة وحصولها، لبدء «اليوم التالي» التي تبني فيه الليبرالية السّوقَ على قاعدة واضحة، نحتاج إلى قصّة، إلى سرديّة فيها رؤية، تخلّد ما حصل، وتروي للكون حكايتنا، تروي حكاية الشعب الذي نخرته الهزائم وما زال صامدًا عاريًا، جائعًا، يُقتَّل أمام أنظار العالم الحرّ وهو يطلب حفنة طحين، لا بدّ أن تكون لنا قصّة سورياليّة عن مجتمعات الحريّة التي رفعت ألوية قداسة الفكر الحرّ والرأي الحرّ، وتسجن وتسحب الجنسيّة وتُعذِب وتطارد من يقول كلمة «فلسطين»، سيموت هؤلاء، ونفنى، وستبقى فلسطين حكايةً لم يُحسن العرب روايتها لحدّ اليوم، وإن أحسن الشعراء تخليدها، وأحسن درويش إبقاءها حيّة، نابضة: «عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ/ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ/ تُسَمَّى/ فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ».