من التاريخ إلى الحاضر .. كيف شكلت السبلة قيم المجتمع العماني؟
الثلاثاء / 10 / صفر / 1447 هـ - 12:15 - الثلاثاء 5 أغسطس 2025 12:15
حوار- فاطمة الحديدية -
في قلب الثقافة العُمانية، تبرز «السبلة» بصفتها معلمًا تاريخيًا يحمل في طياته إرثًا غنيًّا من التقاليد والقيم الاجتماعية.
منذ القدم، كانت السبلة المكان الذي يلتقي فيه الناس، ويتبادلون الأخبار والمعارف، ويعززون الروابط الاجتماعية. ومع التغيرات الكبيرة التي شهدها المجتمع العُماني في العقود الأخيرة، لا يزال لهذا الفضاء أثرٌ عميق في تشكيل الهوية الثقافية. وتجسِّد السَبْلَة صورة حيّة للعلاقات الإنسانية التي تقوم بين أهالي القرى والمدن والتجمّعات السكانية الحضرية، وهي بمثابة مؤسسة اجتماعية تقليدية تُشكّل ملمحًا حضاريًّا راقيًا. والسَبْلَة بالمعنى الاصطلاحي في الثقافة العُمانية تعني المكان العام الذي يجتمع فيه الرجال والأبناء، وتُعرف حاليًّا بالمجلس العام. كان مبنى السَبْلَة قديمًا ذا طابع معماري بسيط، وفي الغالب يتوسط موقعه البلدة أو القرية، يجتمع فيه الأهالي صباحًا ومساءً لتبادل أطراف الحديث ومناقشة القضايا العامة، وحل المشكلات، كما يستقبلون في السَبْلَة الضيوف وعابري السبيل.
حاورت «عُمان» الدكتور علي بن سعيد الريامي، أكاديمي ورئيس قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس، الذي فصّل لنا دور السَبْلَة العُمانية منذ القدم.
ما دور السَبْلَة قديمًا وحديثًا في تبادل الأخبار ومعرفة الأحوال؟
- بما أن السَبْلَة قديمًا كانت المكان العام الذي يلتقي فيه الناس ويُستقبل فيه الضيوف، فقد كانت المنصّة الأهم آنذاك - في ظل انعدام وسائل التواصل الحالية - لتبادل الأخبار ومعرفة المستجدات، ويرتبط ذلك بعادة «المناشدة» والتي تعني السؤال عن الأخبار والعلوم، فكل من يقدم إلى السَبْلَة تتم «مناشدته»، أي سؤاله عن الأخبار، وهذا من السَّمْت العُماني الأصيل، وما زالت هذه العادة قائمة إلى اليوم حتى مع وجود شبكات التواصل الاجتماعي. وهذا بطبيعة الحال يؤكد حرص العُمانيين على التمسك بعاداتهم وتقاليدهم.
كيف ساهمت السَبْلَة العُمانية قديمًا في ترسيخ التربية والسَّمْت العُماني الأصيل؟
- لم تكن السَبْلَة مجرد مبنى من حجر وطين، بل هي بمثابة مؤسسة تربوية اجتماعية، ومدرسة لتعليم قواعد السلوك والآداب العامة، والتي يُطلق عليها في الثقافة العُمانية المحلية مصطلح «السَّمْت»، وحتى نقرب الصورة لجيل النشء يمكن أن نقول عنه بأنه «الخصال الحميدة في طريقة التعامل مع الآخرين، أو السلوك المهذّب الذي ينبغي أن نكون عليه». وبما أن السَبْلَة ملتقى كافة أفراد المجتمع كبارًا وصغارًا من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، فقد كانت مدرسة تربوية لإكساب الأبناء قواعد السلوك والتصرف، حيث يتعلمون قيم احترام الكبير، وآداب الحوار والنقاش، وحُسن الإنصات، وكيف يكون استقبال الضيف، وطريقة الجلوس، وآداب تناول القهوة، وآداب تناول الطعام بشكل عام. هذا السَّمْت أضحى مع مرور الزمن سمةً أصيلة استمدّ منها العُماني الأصيل الوقار والحكمة والاتزان في التعامل مع مختلف المواقف. لهذا، ومع ما نشهده من تطور في وسائل التواصل الاجتماعي، هناك هاجس أن تؤثر هذه الوسائل سلبًا على اكتساب الناشئة لقيم السَّمْت العُماني مع تراجع الدور التقليدي للحاضنة المتمثلة في السَبْلَة العُمانية.
كيف كان الإنسان العُماني في الماضي يتبادل المعارف والخبرات بين جنبات السَبْلَة العُمانية؟
- إلى جانب الدور التربوي والاجتماعي للسَبْلَة، ودورها في معرفة وتبادل الأخبار ومناقشة القضايا العامة؛ فقد كان لها دورٌ وظيفي آخر يتمثل في تبادل المعارف التقليدية والخبرات الحياتية وحتى التخصصية، حيث كان كبار السن وأصحاب العلم والمكانة الاجتماعية من أبرز الحاضرين فيها.
لذلك، كان تبادل المعلومات المتعلقة مثلًا بنظام الأفلاج، وما يتصل به من معارف متنوعة، وأحاديث السياسة، والزراعة، والتجارة، ومعارف الطب الشعبي، وكذلك قصص الترحال، والتاريخ المحلي والعالمي، حاضرة في أحاديث السَبْلَة العُمانية.
ما مدى تأثير السَبْلَة العُمانية قديمًا في بناء العلاقات الاجتماعية وترابطها وفضّ النزاعات والمشاكل؟
- لا شك أن تأثير السَبْلَة العُمانية كان واضحًا ومهمًّا في بناء النسيج الاجتماعي وترسيخه في المجتمع العُماني، فقد كانت بمثابة مركز إدارة مصغّرة للقرية أو البلدة، ومن خلال اجتماع الأهالي وعلى رأسهم أصحاب المكانة، فقد كانت مقرًّا للمناقشات الجادة وحل الخلافات بين أفراد المجتمع. وهي بذلك تكون قد لعبت دورًا مهمًّا ومباشرًا في تعزيز قيم المصالحة والتسامح داخل المجتمع.
هل تراجع دور السَبْلَة في الوقت الحالي؟
- مرّ المجتمع العُماني خلال العقود الخمسة الماضية بتطورات كبيرة في مختلف الجوانب، ولعل من أبرز تلك التغيرات ظهور مؤسسات الدولة الحديثة، فضلًا عن الهجرة الداخلية من البلدات والقرى إلى حواضر المدن الكبرى. كما أصبح هناك نمط حياة جديد ارتبط بالوظائف العامة والتعليم النظامي، ووجود منشآت تربوية وترفيهية حديثة، وبالتالي لم تعد السَبْلَة تمارس نفس الأدوار السابقة، وقلّ الإقبال على الجلوس اليومي فيها كما كان من قبل.
لكنها في المقابل شهدت تطورًا من نوع آخر، حيث استُبدل مسمى السَبْلَة بـ «المجالس العامة»، وأصبحت أكبر بكثير من حيث حجم المبنى والمساحة والمرافق، كما بُني الكثير منها بطرز معمارية حديثة، وتبلغ تكلفة بنائها مئات الآلاف من الريالات، ومجهزة بالأثاث والتكييف. وعادةً تُبنى هذه المجالس بدعم مادي أهلي، وقد تتلقى بعض الدعم المادي الحكومي.
اليوم لا تزال هذه المجالس مكانًا عامًا لإقامة تجمعات الأفراح أو الأتراح بطريقة منظّمة، كما تُعقد فيها اللقاءات العامة مثل سلام العيد، وتحتضن كذلك المحاضرات العامة، وذلك في إطار إحياء الدور التقليدي والوظيفي لها.
ويمكن تطوير هذه الأدوار لتصبح مراكز صيفية للناشئة، وتزويدها بوسائل تقنية حديثة لاحتضان فعاليات وأنشطة ثقافية متنوعة، بصورة تُحافظ على كينونة هذا الفضاء المدني الحيوي، الذي يعبّر عن روح التعاون والتكافل الاجتماعي، ويُعيد رسم خارطة العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع في سياق عصري يُواكب المتغيرات دون أن يفقدها هويتها الأصيلة.