هواجس خريفية
الاثنين / 9 / صفر / 1447 هـ - 21:06 - الاثنين 4 أغسطس 2025 21:06
ليس مهما أين تقضي يومك في الخريف! وإنما كيف؛ فكل الأمكنة التي يظللها الخريف بضبابه مناسبة لقضاء يوم بهيج، طالما التزم المرء بناموس الطبيعة الحريصة على حماية نفسها من عبث الإنسان، خاصة في المناطق المكسوة بالأعشاب والشجيرات التي تحرسها الحشرات ضمن نظام بيئي متكامل لضمان نمو النباتات في بداية الموسم. الصباح في الخريف لا يبدأ بابتهال ولا نغمة ولا شجن، بل بقطرات الرذاذ المتناهية في الخفة، وضباب كثيف يمارس فعل الغواية الكامن في حجب اخضرار الخريف وكشف الغطاء عنه.
لا يمكن الكتابة عن الخريف دون استذكار ملامح من يوميات معاناة الناس في ظفار قبل نصف قرن، ففي الموسم المطير الذي تتكاثر فيه الحشرات الضارة وتتفاقم فيه الأمراض والعلل، تهطل الأمطار بصورة متواصلة، وتتراكم على أسطح المنازل إلى أن تشكل تهديدا على قاطنيها، مما يدفع الأهالي إلى التعاون لتصريف كميات المياه خارج البيوت التي تصبح رطبة وباردة نتيجة قلة وسائل التدفئة المعتمدة على الحطب الذي يتم تخزينه أو تغطيته بعيدا عن الأمطار. بالإضافة إلى ذلك فإن إغلاق البحر أمام المراكب والقوارب نتيجة ارتفاع الأمواج مما يؤدي إلى تناقص أعداد الأسماك، ناهيك عن شح المواد الغذائية في الأسواق نتيجة توقف عملية الاستيراد، وكذلك الأمر بالنسبة للمنتجات الزراعية بسبب احتجاب الشمس وضعف عملية التمثيل الضوئي. ولا تنفع وسائل التخزين أو الاحتفاظ ببعض الأغذية كالتمور أو الحبوب، ويضطر الجار إلى تقاسم مدخراته من المواد الغذائية وما يملكه من غذاء مع جاره. أما في الجبال فالحياة أكثر صعوبة وقسوة؛ إذ يضطر السكان إلى هجر الأمكنة في المناطق الرطبة إلى مناطق أخرى خارج نطاق سقوط الرذاذ تتوفر فيها ملاجئ وكهوف كالمناطق النجدية أو السهول الساحلية الجافة، مما يعني صعوبة حصول الماشية على الأعشاب فتهزل ويقل حليبها. لقد عانى الظفاريون من موسم الخريف سواء كانوا في المدن أو حتى في الجبال، وهذا ما نسجله هنا للتعرف على أوجه المعاناة وكيفية تعامل الأهالي معها. اختلف موسم الخريف حاليا وأصبح ملاذا سياحيا للهرب من هجير الصيف، وتغيّرت يوميات القاطنين في الخريف، فازداد معدل قضاء الوقت الحار في أجواء ترفيهية بين أحضان الطبيعة التي شكّلت فيما مضى تحديا للإنسان، ومن يتابع تطور المواسم السياحية، سيجد أن فصل الخريف هو العنصر الأكثر جذبا للسياحة العائلية في ظفار، وقد استفاد الفاعلون من الموسم في تنشيط خدمات سياحية مرتبطة بالموسم كالاستثمار العقاري وأنشطة المطاعم والمقاهي، ومع ذلك فإن هناك جانبا آخر مغفلا في تأثير الحركة السياحية على حياة المواطنين والمقيمين في مدينة صلالة تحديدا. فقد أفرزت الحياة الاجتماعية في ظفار نمطا مختلفا من المهام والمسؤوليات يتحمّل فيها الفرد المساهمة في حضور بعض المناسبات الاجتماعية كاحتفالات الزواج ومناسبات العزاء والعزائم المقامة للضيوف على مدار الموسم، وإذا حاول المرء الانزواء قليلا فسيجد نفسه مضطرا للتقصير مع الأصدقاء الذين يزورون الخريف، ومؤخرا زادت فعاليات المؤتمرات والندوات التي لا يجد فيها وقتا لحضورها فتغيب عنه محاضرات مهمة وأحيانا قد يحضر ندوات مملة.
يبقى الخريف موسما فاعلا في حياة الإنسان والطبيعة في ظفار، فهو المسؤول عن نمو الغطاء النباتي في جبال ظفار وسهولها المواجهة للرياح الموسمية، كما شكل الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لأغلب سكان المحافظة، ولذلك يستحق الفصل المطير المزيد من الدراسات البيئية والثقافية لفهم العلاقة بين الإنسان والبيئة، كما يستوجب دراسة أثر الخريف في الآداب والفنون ومساهمة أجواء الخريف في حياة الكتاب والأدباء والفنانين.