أعمدة

هل نحتاج إلى الأدب اليوم؟

قياسًا على التساؤل الفلسفيّ الذي طرحه أهل بيت الزبير، وعقدوا في بحثهم عن إمكان جوابٍ له ندوة علميّة هامّة، بعنوان، «هل نحتاج إلى الفلسفة في حياتنا؟» أطرح بدوري سؤالاً في ظلّ كيانٍ مقلوب على رأسه، وعقلٍ فقد رُشده، وعالم ينحتُ طريقًا لا نعلم منتهاها، سؤالَ مدى حاجتنا إلى الأدب اليوم، وهو سؤال قد عاد إليه عقلاء النقد اليوم، ولا ريب أنّ ما دخل فيه الناقد الفرنسيّ أنطوان كومبانيون (Antoine Compagnon)، من عملٍ على إيجاد جوابٍ لسؤالِ «لمَ يَصْلح الأدب؟»، داخل في هذا السياق، مندرج في مقامه، فقد قدّم محاضرات في الكوليج دي فرانس في هذا الموضوع، وجمّعها في كتاب بذات العنوان.

الأدب في كلّ مظاهره وأشكاله، وبطبيعة الحال السؤال قد يشمل الفنّ عمومًا في ظلّ حيرة معرفيّة نقديّة فنيّة حول إمكان انقراض الإنسان العاقل، الإنسان الحسّاس، الإنسان الواعي، الإنسان الباحث، واستبداله بإنسانٍ يميل إلى التألية، إنسان العقل الجاهز، إنسانٌ عبدٌ لخوارزميّات وبرمجيّات تسوس فكره وتحدّد عقله وتضبط ميزان وعيه وتحدّد مسار ذهنه.

هذا الإنسان المشروع الذي أصبح لا يقدر على العيش ساعة واحدة خارج تغطية الإنترنت، والذي صار عكازه ومرتكزه وعصاه السحريّة التي بها ينطق هو السيّد شات جي بي تي ومشتقّاته وأشباهه ونظائره، هل ما زال في حاجة إلى أن يُديم النظر في كتابٍ أدبيٍّ وأن يقف على مجازاته وأبعاده ومقاصده، وأن يشعر بنبْض الكلام فيه.

ما حاجتنا إلى الأدب؟ إنَّ ضبْط حاجتنا إلى الأدب اليوم، هو رهين إدراك الغاية من الحاجة إلى الأدب في الأمس القريب والبعيد. حاجتنا إلى الأدب لم تكن أبدًا عمليّة، تقنيّة، نفعيّة، تجاريّة، حسابيّة، ربحيّة، بل كانت دومًا نفسيّة، روحيّة، ذاتيّة، على ما لها من أثر أخلاقيّ وتربويّ، ومعرفيّ، وذهنيّ، فقارئ الأدب، المقبل عليه، مختلف جذريًّا عن العازف عن قراءة الأدب، فهو مالكٌ لحيواتٍ، مطّلع على تجارب، له عينٌ أخرى منها يستقي معارف أنتروبولوجيّة، نفسيّة، تاريخيّة، لغويّة، علميّة، يكتسب قارئ الأدب هذه المعارف، وهذا الصقل الذهنيّ والروحي، وهذا التكوين الشخصيّ والنفسيّ وهو يُمارسُ فعلاً يحبّه، ينجذب إليه، يرغب فيه، وعلى رأي إيتالو كالفينو، فإنّ «هنالك أشياء، وحده الأدب قادر أن يمنحنا إيَّاها».

قراءة رواية أو السياحة في رحيبِ شعرٍ، أو التلذّذ بقصّة من قديم الأدب أو حديثه، أو التواجد مع المجنون في بؤسِه وترحه وهيامه وبكائه، أو التحليق مع السندباد في مغامراته، أو العيش مع أنفسٍ في رواياتٍ عشناها وتابعنَا وقْعَها وإيقاعَها. الأدب ليس إكراهًا، وإنّما هو اختيارٌ، وحاجتنا إليه هي الحاجة إلى التدرُّب على الحياة، على التمتّع بصُوَرٍ ومجازات، إلى الارتحال في أزمان أماكن مختلفة، والعيش مع شخصيّاتٍ قد نراها في واقعنا اليوميّ ولا نُدرِك ما تحمله من هموم وآمالٍ، وقد نجهلها فتُعْرَضُ علينَا حييَّة، نابضةً. لا نقرأ الأدب لنتعلّم درْسًا في الحساب أو في الفيزياء، وإنّما دوره أن يُوقِظ فينا راكِدًا، أن يبعث إحساسًا، الأدب هو اختبارُ المشاعر، تفاعلٌ، خروجٌ من حالٍ إلى حالٍ.

لا يُملي علينَا الأدب كيف نكون، أو ماذا نفعل، وإنّما هو يمثّل لنا حيوات، عوالم ممكنة، أناسًا يحييون، ويحبّون، ويُحبَطون، ويأملون، ويألمون، يسعدون ويبْأسون، يُخطِئون ويُصْلحون. يحملنا الأدب إلى التفكّر في الكون، في العالم، في الإنسان، في الوجود، في الذّات الإنسانيّة، حتّى لا نكون أضلَّ من الأنعام سبيلاً، «يُقْرأ الأدب لا ليُلقّن درْسًا، بل ليُوقِظ شيْئا فينا»، وعلى ذلك، فإنّ الذين يتساءلون عن جدوى الأدب اليوم، يطرحون السؤال الخاطئ، فليس هنالك تنازع بين العلم والأدب، ولا بين التقنية والأدب، ولا بين تطوّر وسائل الذكاء الاصطناعي والأدب، فكلٌّ في سبيلٍ يسير، الأدب يُذكي حياة الإنسان، ويشدّه إلى إنسانيّته، ونحتاج إليه دومًا، وعلى قياس ما أقرّه أنطوان كومبانيون، عندما قال: «نحتاج إلى بودلير اليوم، لأن شعره يعلّمنا كيف نرى الجمال في القبح، ويصالحنا مع عجزنا اليومي»، فإنّنا نحتاج إلى عنترة وإلى المتنبي وإلى المعرّي وإلى التوحيدي وإلى عبدالرحمن منيف وإلى حنّا مينا وإلى إميل حبيبي وإلى محمود درويش وإلى السيّاب، أكثر من أيّ وقت مضى، نحتاج إليهم لنُبْقي على الحياة، ففي كتابه «لماذا نحتاج إلى الأدب»، يعود بنا كومبانيون إلى أسئلة محرقة، إلى فساد أنظمة التعليم التي نفّرت الطلبة في درس الأدب، إلى فساد ذائقة المدرِّسين الذين لا يعرفون جوابَ سؤال الحاجة إلى الأدب، الذي يتعرَّقون ويتعثّرون ويُحرجون عندما يُطرح عليهم السؤال.

يقول مبينًا ضرورة الأدب في حياة الإنسان: لذلك، «فحين أُسْأَل: لماذا نقرأُ الأدبَ؟، أجيب: لأنَّنا لا نستطيع أن نعيش من دونه، لأنَّ الإنسان كائن قصصي، يحتاج إلى الحكاية، إلى المجاز، إلى التخييل، ليُعيد ترتيب فوضى الحياة». يظلّ الأدب في هذه الفوضى المهدِّمة السائدة، وفي ظلّ الأسْر المقبل لكينونة الإنسان، وسيطرة الذكاء الصناعيّ، وإيمان الإنسان بهذا الذكاء، هو الأرض التي تنبت الإنسانيّة، تذود عن الإنسان الذوبان والتحوّل إلى خوارزميّة، الأدب «يبقى ملاذًا أخيرًا للغة، وللذاكرة، وللنفس، في عالم متخم بالصورة والضجيج».