العرب والعالم

غزة الجائعة "حمم الموت وسلاح الجوع"

 
غزة تعاني تصحرًا غذائيًّا فتاكًا؛ الجوع ليس مجازًا، إنه موتٌ بطيء يمشي في شوارع غزة. تحت الحصار والقصف، يعيش أكثر من مليوني إنسان في القطاع مأساة إنسانية غير مسبوقة. لم يعد الجوع ظرفًا طارئًا، بل أصبح واقعًا يوميًّا يفتك بالغزيين.

لم يبقَ في مخيمات النزوح طحين، ولا في الأسواق غذاء، أرض محاصَرة من كل الجهات، جياعٌ ينامون على وجع المعدة، والأمهات يضعن أطفالهن للنوم جوعى، علّ النوم يطفئ نيران البطون. الناس تأكل ما لا يُؤكل، إنها حرب على الحياة، تُمارَس بالصمت والحصار والتجويع.

في أحد أزقة مخيم خان يونس غرب المدينة، جلس محمد حسين (٣٣ عامًا) القرفصاء أمام ركام فرن الحي الذي كان يملكه عمه. كانت يده اليسرى ممسكة بكيس بلاستيكي صغير يحتوي على بقايا دقيق أسمر جاف، أما اليمنى فتضغط على بطنه الخاوية. إلى جانبه، طفلته رُقيّة ذات الأعوام الأربعة تبكي، ليس من جرح أو فزع، بل من جوع خالص، جوع لا يوصف.

رغيف تحت الأنقاض منذ أكثر من أسبوع، لم تدخل لقمة خبز إلى أفواه العائلة. في الأيام الماضية، كانوا يصنعون ما يشبه «العجينة» من العدس المطحون، لكن حتى العدس انتهى. «كان الخبز هو ما يُشبعنا، يسند يومنا، حتى في الحرب كنا نجد خبزًا... الآن لا شيء»، يقول سعد بصوت متقطع، والدمعة تحفر طريقها بصمت.

لم يكن محمد وحده. المخبز الذي دُمّر قبل أيام بقذيفة دبابة، كان يخدم ثلاثة أحياء. اعتاد الأطفال أن يقفوا طوابير طويلة كل صباح ينتظرون الأرغفة الساخنة، أما الآن، فإنهم يجلسون على الأرصفة ينتظرون معجزة.

«هل جربت أن ترى أطفالك يتضورون جوعًا، ولا تملك أن تفعل شيئًا؟»، سأل محمد «عُمان» وهو يشير إلى خيمة عائلته. لم تكن الإجابة مهمة، فقد كانت واضحة في قسمات وجهه المنهك.

وفي الخلفية، تتعالى أصوات الطائرات، ورائحة البارود تختلط ببقايا الطحين المحترق. غزة، المدينة التي قاومت كل شيء، لم تقوَ على الجوع.

شهادات من الجوع من قلب هذه المعاناة، تتوالى الشهادات التي ترسم صورة دامغة للجوع المتفاقم في قطاع غزة. أصوات من رفح وخان يونس وغزة وجباليا، كلها تتحد في سرد مأساة مشتركة: انعدام الخبز، شح الطحين، وانطفاء الأفران. كل شهادة تحمل وجعًا شخصيًّا يعكس الجوع العام، وكل جملة هي صرخة من فمٍ خاوٍ.

لم تكن هذه الشهادات مجرد كلمات، بل وثائق حية لواقع يتجرد فيه الإنسان من أدنى حقوقه: لقمة العيش. يصف الأهالي كيف أُغلقت المخابز تباعًا، وكيف أصبح الحصول على رغيف خبز مسألة حياة أو موت. من سعد الذي لا يجد طحينًا لأطفاله، إلى محسن الذي يخلط الشاي بالخبز لحفيده الرضيع، يتجسد الجوع كعدو لا يرحم، يطارد الكبار والصغار على حد سواء.

«لا يوجد طحين، ولا سولار، وفقدنا الأمل»... هكذا بدأ محمد شهادته الكاملة وهو يصف الوضع الكارثي الذي وصل إليه القطاع. منذ أكثر من شهر، والاحتلال يُغلق المعابر بإحكام، ويمنع دخول أي مواد غذائية أو وقود، مما أدى إلى شح في كل ما يخص الخبز.

يقول: «الطحين الذي نشتريه من السوق - بقي سعره خرافيا. لا الفقير قادر يشتريه ولا الغني حتى. مخازن الأونروا فارغة، لا يوجد فيها شيء. حتى وكالة الغوث عاجزة، وهذا كان آخر أمل للناس».

محمد، الذي يعمل في ورشة نجارة متوقفة الآن، يشير إلى أن معظم المخابز أغلقت أبوابها، وتحولت الأفران الكبيرة إلى هياكل صامتة لا صوت فيها ولا نار: «صرنا جوعى يا أخي. والله الوضع مأساوي جدًا».

يروي كيف اصطف الناس لساعات أمام فرن صغير لا يزال يملك بعض الطحين، ولكن حين وصل دوره، أعلن العامل أن الطحين نفد. عاد سعد إلى خيمته بخفيّ حنين، وطفلته تنتظر قطعة خبز لم تأتِ.

يختتم شهادته: «الجوع قهر. الجوع مذلة. الحرب كانت أهون، كنا نهرب من القصف، لكن في الجوع... ما فيش مفر».

كل يوم بطون فاضية «قضيتنا رغيف خبز»، قالها أحمد محمد بصوت يملؤه الغضب أكثر من الحزن. الرجل الأربعيني، الذي كان يعمل سائقًا، فقد عمله ومنزله وأمل أسرته في مدينة رفح البائدة. يعيش الآن في مدرسة تحولت إلى مأوى في مواصي خان يونس، ومعه زوجته وخمسة أطفال، لا يجدون ما يسد جوعهم سوى ما يُوزّع كل يومين من بعض المعونات القليلة.

يقول لـ«عُمان»: «حتى أبسط مقومات الحياة، اللي هو الخبز، صار مفقود. هذا مش طبيعي. الاحتلال بيحاصرنا مش عشان يقضي على مقاومة، لا، هو بيحاول يقضي علينا كلنا كشعب».

يرى أحمد أن الجوع أداة حرب، بل هو السلاح الأكثر فتكًا: «لماذا تحرم طفلًا من رغيف خبز؟ لماذا تقتل طفلًا بالجوع؟»، يتساءل والدموع في عينيه.

ويتابع: «غزة بتموت جوعًا، وقهرًا، والعالم ساكت. ما في كهربا، ما في ماء، ما في شيء. كل يوم جنازات، وكل يوم بطون فارغة». يناشد من خلال صوته: «وين الشعوب العربية؟ وين العالم؟ الناس بتموت من الجوع، ليس من القصف فقط. أنقذوا أطفالنا».

مخيم بلا فُتات «تخيل تكون موظف أونروا، ومعك مرتب، وما تقدر تشتري طحين»، هكذا قال أبو عامر الفرا، الرجل الخمسيني، بمرارة ممزوجة بالذل. هو أب لسبعة أطفال، يعيش في بيت مهدد بالقصف، ويقضي أغلب يومه في محاولة الحصول على الطعام.

يقول لـ«عُمان»: «المخابز كلها أغلقت، الطحين مفقود، والناس تأكل ورق شجر. كيلو الطحين بقى بـ30 دولار، والذي معه يشتريه يحمد ربنا».

يحكي كيف أن بعض العائلات تخلط المياه مع الأرز وتعتبرها «وجبة»، وكيف أنه لم يتذوق اللحم منذ شهرين. «أنا يمكن أقدر أجيب رز لأولادي، لكن غيري لم يجد حتى العدس».

وفي تساؤل مُر، قال: «إحنا بنموت، وهم بيشاهدونا على الشاشات. وين الإنسانية؟».

وطالب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بوقف كل الخلافات والوقوف مع الناس: «إحنا محتاجين وحدة، مش وقت خلافات».

رضيع يأكل الخبز بالشاي في منطقة غرب خان يونس، جنوبي قطاع غزة، أغلق المخبز الوحيد أبوابه، ليترك خلفه مليون نازح في العراء. محسن شمعة، الذي كان يعتمد عليه منذ ثلاثين عامًا، يقف الآن في طوابير بحثًا عن دقيق غير موجود.

يقول الرجل: «لو وجدت دقيق، هتحتاج تدفع دم قلبك. ولو جبت دقيق، لازم تبحث عن مخبز يخبزه لك. والذي عنده غاز طهي، يأخذ عليه مقابلًا ماديًّا ضعف سعر الأكل نفسه».

يحكي لـ«عُمان» بحزن عن حفيده الرضيع الذي لم يتناول الحليب منذ أسبوعين، وكيف تضطر العائلة لخلط الشاي مع الخبز المنقوع لإطعامه. «هذا ليس أكلًا لطفل، هذا كسر قلب».

ويختتم شهادته بعبارة قاسية: «كلنا نازحون، كلنا جياع. الحرب لم تبقِ لنا شيئًا. كلنا خاسرون».

الجوع أداة حرب منذ الثاني من مارس الماضي، يفرض الاحتلال الإسرائيلي حصارًا خانقًا على قطاع غزة، أغلق فيه كل المعابر، ومنع دخول المواد الغذائية والوقود. هذا القرار، حسب تقارير حقوقية، هو استخدام واضح للجوع كسلاح ضد المدنيين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.

المخابز الكبرى في غزة أُجبرت على الإغلاق. المئات منها توقفت كليًّا، فيما لا تزال القلة القليلة تعمل بطاقة منخفضة جدًا، معتمدين على كميات محدودة من الدقيق المتبقي. الطوابير تمتد لساعات، ولكن الأرغفة لا تكفي.

الطحين الذي كان يُباع بثلاثة دولارات، أصبح يُباع الآن بأكثر من ٣٠، هذا إن وُجد. أما الوقود اللازم لتشغيل الأفران، فقد اختفى تقريبًا.

الجوع هنا ليس عرضًا جانبيًّا، بل هدف رئيسي. في كل مرحلة من مراحل الحرب، يتضح أن المدني الفلسطيني هو المستهدف الأول، ليس فقط بالقصف، بل بالتجويع أيضًا.